مرّت كوسوفو بمخاضات التشرذم والمعاناة الطويلة في القرن الماضي، وكان مخاضها الأخير قبل 23 عامًا، فبعد عامَين من الحرب الشرسة والعدد المهول من مجازر الجيش الصربي، نجح ألبان كوسوفو في تحرير أنفسهم من الهيمنة الصربية بعد تدخل من قوات الناتو، ليشكّل انسحاب القوات الصربية من أراضي كوسوفو عام 1999 واحدة من أشد حالات القومية مأساوية في أوروبا.
تركت الحرب الصربية على ألبان كوسوفو عبئًا كبيرًا، إذ استنزفتهم وأرهقتهم من كل جانب، مع شبه انعدام في البنية التحتية والمقومات والخدمات الأساسية للإقليم، ثم مع انسحاب القوات الصربية من كوسوفو شرع الألبان في إعادة بناء دولتهم الهشّة والمدمّرة، ومنذ ذلك الحين لم تشهد العلاقات الصربية الكوسوفية أي تحسُّن، وازدادت توتُّرًا خصوصًا مع اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، إذ إن تداعياتها امتدّت إلى كوسوفو ولا تزال تهدد بإشعال الحرب فيها.
قهر الجغرافيا
تميّزت كوسوفو بموقعها الجيوستراتيجي، والذي صنعَ إشكالات وتعقيدات كثيرة جعلت منها ساحة تنافس ومطمع للقوى الكبرى، إذ إن كوسوفو لا تستمدّ أهميتها من قوتها بل من موقعها الحساس ومن عواقب ظروفها الضعيفة، والتي جعلتها عرضة لسلوك اللاعبين الدوليين، أو انعكاس التوترات الدولية على وضعها، فدور الدول الكبرى والإقليمية مؤثّر جدًّا في وضع كوسوفو، ولا نبالغ إن قلنا إن لها الكلمة العليا.
كوسوفو هي إقليم أصغر بكثير من البوسنة، تناهز مساحتة 10 آلاف و887 كيلومترًا، لكنها مكتظة بالسكان، وبحسب آخر إحصاء سكاني شامل أُجري عام 2011، قامت به وكالة الإحصاء الكوسوفية (Enti Statistikave té Kosovës)، فإن عدد السكان يصل إلى مليونَي نسمة، وتبلغ نسبة المواليد 16% ومعدل الوفيات 3.2%، كما يعدّ معظم سكان كوسوفو من الشباب، حيث تتراوح أعمار ما بين 0 و14 عامًا بنسبة 33%، وتتراوح أعمار ما بين 15 و64 عامًا بنسبة 61%، و6% لفوق 65 عامًا.
وأكبر شعوب كوسوفو من حيث الكثرة هم الألبان حيث يشكّلون أكثرية السكان، حوالي 93%، ويلي الألبان في الترتيب قومية الصرب ويشكّلون 5%، ثم يلي الصرب الترك والبشناق، وتأتي بعدهم قوميات وشعوب أخرى متفاوتة في الحجم كالغجر ومصريي البلقان والكروات والأشكاليا والغوران، ورغم وجود أغلبية ألبانية ساحقة، إلا أن الدستور ينصّ على أن المجتمع الكوسوفي مجتمع أثني متعدد.
أما الدين، فالإسلام هو الديانة الرئيسية في كوسوفو، يدين به أكثر من 95% من السكان ويتبعون المذهب الحنفي، ثم أعداد قليلة من الديانات والمذاهب الأخرى، كشهود يهوه والكاثوليك والأرثوذكس، لكن مع ذلك الإسلام غير معترف به، إذ ينصّ الدستور على أن جمهورية كوسوفو دولة علمانية محايدة تجاه الأديان.
لم يقُم الاتحاد الأوروبي بتسوية نزاع كوسوفو بشكل نهائي، وترسيم حدود كوسوفو وصربيا بشكل واضح، إذا تُركت البلد دون تسوية وسلام حقيقي.
وتعدّ اللغتان الألبانية والصربية هما اللغتان الرسمية في البلد، وتستخدَمان في المؤسسات الحكومية والتعليم، أما البرلمان الكوسوفي فيتكوّن من 120 مقعدًا، يشغل الألبان 100 مقعد والأقليات تشغل 20 مقعدًا -مع أنها لا تزيد عن 5%-، 10 للصرب -أي أكثر ممّا يمثلون- و10 للأقليات الأخرى، وكذلك في الحكومة لا بدَّ أن يكون هناك دائمًا وزير صربي واثنان من الأقليات الأخرى، وهذا الأمر منصوص عليه في الدستور.
يعد سكان كوسوفو ثالث أفقر بلد في أوروبا، ويقدّر معدل البطالة بنحو 40%، كما يعتمد اقتصاد البلد بشكل كبير على التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون الكوسوفيون في الخارج إلى ذويهم، حيث يعملون في ألمانيا وسويسرا على وجه الخصوص، وفي أوروبا الغربية على العموم، واليورو هو العملة المتداولة في البلد.
ورغم أن كوسوفو تمتلك طبيعة رائعة، وتكتنز الكثير من الثروات الطبيعية والمعدنية التي قد تغيّر من واقع البلد ومستقبله، إضافة إلى أنها غنية بالمياه السطحية بـ 8 أنهار و4 بحيرات رئيسية، إلا أنه لا يوجد لديها قاعدة صناعية قوية، حيث عانت من التخلُّف طيلة وجود الاتحاد اليوغسلافي، إضافة إلى أنها دولة حبيسة ليس لها أي منفذ بحري، فقط محاطة بحدود جبلية وعرة ووديان ضيقة مع 4 دول، هي ألبانيا ومقدونيا والجبل الأسود وصربيا.
الاستقلال الناقص
لم يُسوِّ الاتحاد الأوروبي نزاع كوسوفو بشكل نهائي، ولم يرسّم حدود كوسوفو وصربيا بشكل واضح، إذا تُركت البلد دون تسوية وسلام حقيقي، وظلَّ التعامل الأوروبي في كوسوفو يعتمد على طريقة المسكّنات والحلول النصفية التي تشتري بعض الوقت، فكل أزمة يُعطى لها مسكّن ويتم احتواؤها، لكن لا يتم معالجة أصلها.
لدى كوسوفو مقومات البقاء كدولة، لكنها لا تعد دولة مستقلة من حيث الشرعية الدولية، فرغم إعلانها الاستقلال عام 2008 واعتراف 116 دولة بها، إلا أنه ليس لديها مقعد بالأمم المتحدة، إذ يجب أن يعترف بكوسوفو أكثر من 150 دولة من أصل 192 دولة، إضافة إلى أن روسيا والصين في مجلس الأمن تمنعان استقلال كوسوفو وتستخدمان الفيتو دائمًا ضدّها.
وللأسف نصف البلدان العربية لم تعترف باستقلال كوسوفو حتى الآن، وهذا أمر غريب ومحزن -مع أن حوالي 90 دولة مسيحية تعترف بكوسوفو-، وليس هناك جواب صريح من هذه الدول على عدم الاعتراف بكوسوفو، فحتى مصر التي اعترفت بكوسوفو في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، سحب الرئيس السيسي الاعتراف بها.
تستغلّ بلغراد تجمُّع الأقلية الصربية الموجودة على الحدود الكوسوفية الصربية في القسم الشمالي الصغير من كوسوفو، والتي تقدَّر بـ 50 ألف شخص.
أما الجارة بلغراد، فقد سعت إلى منع مسيرة بناء كوسوفو ووضعت العراقيل أمامها، حيث زعزعت الأمن والاستقرار فيها حتى اليوم، ولا تزال تصرُّ على أن استقلال كوسوفو إعلان صريح للعداء، وينصّ دستورها على أن كوسوفو جزء لا يتجزّأ من ترابها ويسمّونها قلب صربيا.
إضافة إلى أن العقيدة الصربية تقوم على أن كوسوفو هي القدس وقدرهم التاريخي، حيث شكّلت معركة كوسوفو عام 1389 عقدة للصرب، وأصبحت جزءًا من ركائز القومية الصربية، دائمًا ما تستخدم الأنظمة الاستبدادية الأساطير من أجل الحفاظ على نظامها.
ويعدّ شمال كوسوفو الذي تقطنه الأقلية الصربية عقدة للحكومة الكوسوفية، حيث استخدمت بلغراد الشمال تحديدًا لتدمير كوسوفو، ولهذا السبب تمَّ وضع خطط من قبل بعض السياسيين لتبادُل الأراضي بين كوسوفو وصربيا وإنشاء “حدود عرقية” بينهما، لكن ألمانيا ترفض هذا الاقتراح وترى أنه قد يؤدي إلى فتح الكثير من الجروح.
وبالتالي أثّرت كل هذه الأمور على بسط كوسوفو سيطرتها الإدارية على أراضيها وألّا تكون دولة كاملة، حيث أصبح النظام السياسي هشًّا للغاية والاقتصاد ضعيفًا بسبب غياب الاستقرار السياسي ووحدة البلد الترابية، فالوضع الحالي يساعد على خلق التوترات، صحيح أن الناتو له دور في استقرار كوسوفو، لكن لديه سقف معيّن يقف عنده.
صربيا الصغرى
تستغل بلغراد تجمُّع الأقلية الصربية الموجودة على الحدود الكوسوفية الصربية في القسم الشمالي الصغير من كوسوفو، والتي تقدَّر بـ 50 ألف شخص، وتسعى بلغراد لتحقيق مكاسبها السياسية من خلال تحريض هذه الأقلية الصربية على تحدّي الحكومة المركزية في بريشتينا، وعرقلة خطوط التواصل مع الحكومة الكوسوفية وعدم الالتزام بقوانينها وقراراتها.
فمع الوقت استطاعت بلغراد بالفعل أن تبني دولة داخل الدولة، وأن تؤسّس لهوية معادية للدولة الكوسوفية، حيث إن الصرب اتخذوا طابع الميليشيات، وشكّلوا مؤسسات موازية للمؤسسات الكوسوفية بدعم من صربيا، على سبيل المثال ميتروفيتسا مدينة تعيش فيها دولتان.
يقاوم الصربيون كل أشكال الاندماج في مؤسسات الدولة الكوسوفية، ويديرون مناطقهم الخاصة خارج سلطة الإدارة المركزية، وحتى في مناطقهم التي يتواجد فيها ألبان يقومون ببناء جدار فصل عنصري، ويعيشون في بؤر وجيوب سكنية منعزلة عن باقي السكان، ويزيّنون شوارعهم بالرموز والأعلام الصربية، كما ينتقلون من وإلى صربيا بكل حرية، ويقولون إنهم لا يأخذون أوامرهم إلا من بلغراد.
تستخدم صربيا نفس أساليب روسيا مع أوكرانيا في السنوات السابقة، حيث مثلما استغلّ السيناريو الروسي وجود أقلية روسية في شرق أوكرانيا، وساعدها على تحدّي الحكومة المركزية، لتلعب موسكو بعد ذلك بورقة هذه الأقلية التي غذّتها طوال الفترات السابقة وتدّعي أنها جاءت بجيشها لتحميها؛ تتعامل صربيا مع كوسوفو بنفس سيناريو وسياسة موسكو بالضبط في دونيتسك ولوغانسك.
اشتدت سخونة صرب كوسوفو مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وهذه الخلافات الظاهرة تتعدّى مسألة الوثائق الشخصية أو لوحات السيارات.
فصرب كوسوفو يعيشون فيها ولكن عمليًّا لا ينتمون إليها، وهم لم يرغبوا في الظهور على أنهم من صرب كوسوفو، كما أنهم في الواقع قادرون على زعزعة أمن البلاد، ودائمًا يستعملون النبرة التهديدية تجاه الدولة، ففي عام 2019 دخلت الدولة في مواجهات عسكرية معهم، وفي عام 2021 وصلت مطالبات الصرب بكوسوفو إلى الانفصال وهم بالفعل يمارسونه.
يشارك صرب كوسوفو في انتخابات بلغراد، حيث استمرت الأخيرة في التعامل معهم كما لو أنهم مواطنون تابعون لها، وهنا تستغل الأحزاب المتطرّفة صرب كوسوفو مع كل انتخابات جديدة، وتعتمد في دعايتها على الشعارات والخطابات الشعبوية، وتَعِدُ صرب كوسوفو بعدم التنازل عن البلد واسترداده قريبًا، ما ينعكس سلبًا على التعايش والاستقرار.
وبالتالي هذا الصراع المصغّر الذي سخّنته بلغراد ولعبت فيه على وتر العاطفة والدين والمظلومية التاريخية، هو في الواقع بمثابة قنبلة موقوتة قد يؤدّي انفجارها إلى كابوس لا يمكن السيطرة عليه.
لا يريد الاتحاد الأوروبي أن يدفع بصربيا إلى مزيد من الاقتراب مع موسكو، لذلك يلطّف معها الأجواء حتى إن كانت الأدلة وأصابع الاتهام تشير إلى بلغراد، حيث من اللافت أن كل الضغوط الأوروبية لم تساهم في دفع بلغراد للدخول إلى مفاوضات حقيقية، أو تخلّي الصرب عن هدفهم باستعادة كوسوفو التي تسكنها أغلبية ألبانية، كما أن بلغراد وإن تعاملت ونسّقت مع الاتحاد الأوروبي، فهذا لا يعني أنها تضعه في دائرة الأصدقاء.
وبالتالي نتيجة لسنوات من السياسات السيّئة من قبل الاتحاد الأوروبي، ومحاولة إرضاء صربيا، لم تنفّذ الأخيرة ما وقّعت عليه ولم تحترم الاتفاقات والوعود التي قطعتها، ولذلك الثابت بعد كل هذه السنين هو أن السلام هشّ، والتوترات من السهل أن تشتعل في أي وقت، والاسترضاء لا يجدي نفعًا مع القادة الذين لديهم مقاربات أو ادّعاءات هيمنة نحو جيرانهم، وتدلّ الأحداث الأخيرة على ذلك.
تجدُّد المواجهة.. ما وراء التوتر الأخير؟
اشتدت سخونة صرب كوسوفو مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وهذه الخلافات الظاهرة تتعدّى مسألة الوثائق الشخصية أو لوحات السيارات، ويمكن القول إنها أبعد من ذلك، وأكثر ارتباطًا بالصراع التاريخي بين الطرفَين وتدخلات القوى الخارجية، حيث إن التصعيد يأتي في سلسلة التصعيدات التي تجريها بلغراد منذ فترة.
كما أن هذه ليست المرة الأولى التي تطلب فيها كوسوفو من الصرب المقيمين فيها تغيير لوحات السيارات وإصدار بطاقات الهوية من كوسوفو، إذا إن هذا الأمر تكرر كثيرًا على مدى السنوات السابقة، ودائمًا ما رفض الصرب جميع الخيارات والبدائل التي عرضتها الحكومة.
وأيضًا هذه ليست المرة الأولى التي تضع فيها صربيا جيشها على أهبّة الاستعداد، فمن وقت إلى آخر تجمع بلغراد قواتها العسكرية على الحدود، في الواقع هذه المرة السابعة خلال السنوات الخمس الأخيرة التي يعلن فيها الجيش الصربي حالة التأهُّب القصوى والاستعداد القتالي نحو كوسوفو، والسبب دائمًا حماية الأقلية الصربية التي تعتبرها بلغراد مضطهدة.
يريد الرئيس الصربي إظهار بلغراد على أنها قادرة على الحرب من أجل حماية صرب كوسوفو، ويبدو أنه يحقق من خلال هذا الاستعراض مكاسب سياسية وتفاوضية
ولكن ما اختلف هذه المرة هو أن ردَّ الصرب كان أكثر عنفًا من قبل، إذ قطعوا الطرقات الرئيسية في حوالي 14 مكانًا، واشتبكوا مع الشرطة الكوسوفية، واعتدوا على بعض الألبان، إلى جانب استقالات جماعية لقضاة محليين وحوالي 600 من مسؤولي الأمن احتجاجًا على طلب حكومة كوسوفو المتجدد، والذي يبدو طبيعيًّا، إذ إن صربيا تطبّق الإجراءات نفسها على مواطني كوسوفو الذين يعبرون إلى أراضيها، فقامت كوسوفو بتطبيق إجراءات مماثلة.
لا يزال صرب كوسوفو حتى الآن يستخدمون لوحات السيارات والوثائق الصربية، بل يرفضون أصلًا الاعتراف بالمؤسسات الكوسوفية أو الاعتراف بالدولة، ويصرّون على أن بلغراد هي دولتهم، ولم يكسر صرب كوسوفو الحواجز التي أقاموها على الطرقات إلا عندما أمرتهم صربيا بذلك، بعد طلب واشنطن والاتحاد الأوروبي من الرئيس الصربي إزالة الحواجز.
لكن اللافت أن أمريكا وأوروبا أصدرتا بيانات قالتا فيها إن إقامة هذه المتاريس وقطع الطرقات الرئيسية هو شكل من أشكال الاحتجاج السلمي المشروع، وقال مسؤول أمريكي إن صربيا لها الحق في مطالبة قواتها بالتدخل في كوسوفو، وبالتالي تساعد هذه السياسات الاسترضائية الرئيس الصربي في مواصلة مشروع التصعيد ضد كوسوفو.
في الواقع، يلعب الرئيس الصربي الحالي على استراتيجية زرع أزمات طويلة المدى في كوسوفو مع استعراض العضلات وإظهار القوة، حيث يريد إظهار بلغراد على أنها قادرة على الحرب من أجل حماية صرب كوسوفو، ويبدو أنه يحقق من خلال هذا الاستعراض مكاسب سياسية وتفاوضية، فبلغراد لديها قدرة أكبر في اللعب على التوازنات الدولية، فهي تجلس على كرسيَّين في وقت واحد.