تعدّ منطقة البلقان من أخصب مناطق الصراعات التاريخية والثقافية في العالم، ولا تزال شاهدة على أشرس حروب العصر الحديث، منطقة مليئة بالتقلُّبات والحروب ويظهر فيها تجليات القوى الكبرى، وفي الواقع اكتسبت البلقان لقب “برميل البارود” بسبب لعب القوى العظمى على التصدُّعات العرقية، إضافة إلى أن معظم دول البلقان منذ استقلالها لم تصل إلى اتفاق نهائي، كل الاتفاقات متوترة، ما انعكس سلبًا على المنطقة المتشنّجة.
الشقيق الأكبر
تمتلك روسيا نفوذًا سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا كبيرًا في صربيا، وما زال لديها روابط تاريخية وقواسم مشتركة معها، حيث تنظر صربيا إلى روسيا بوصفها الشقيق الأكبر الذي وقف بجانبها طوال تاريخها، بجانب التراث الديني والعرقي المشترَك، إذ تعدّ رابطة العرق السلافي الواحد والديانة المسيحية الأرثوذكسية رباطًا قويًّا، وهو ما يظهر بوضوح من خلال الروابط الثقافية والتاريخية والعسكرية الوثيقة والمشتركة مع روسيا.
دولتنان تتقاطعان في كل شيء وتحالف تقليدي لم ينفك بين البلدَين، ولذا لم يكن من المستغرب أن بلغراد هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي خرجت فيها تجمّعات حاشدة لتأييد الرئيس بوتين في حربه على أوكرانيا، حيث رفع المتظاهرون الأعلام الروسية بجانب صور بوتين، وهتفوا: “أوكرانيا روسية كما أن كوسوفو صربية”، أي أن الصرب ربطوا ما بين النزاعَين.
“حوالي 85% من الشعب الصربي مهما حدث سيكونون إلى جانب روسيا”.. ألكسندر فوتشيتش، الرئيس الصربي.
إضافة إلى أن الرئيس الصربي معروف بعلاقته الوثيقة مع بوتين، وكان الأخير من أوائل الرؤساء الذين قاموا بتهنئته لولايته الثانية قبل أشهر قليلة، كما أن بلغراد ما زالت ترتبط بخط طيران مباشر مع روسيا ورفضت المشاركة في العقوبات الاقتصادية ضدها، وبعض التقارير تتحدث عن وجود صرب متطوعين يحاربون بجانب الجيش الروسي في أوكرانيا.
هذا التحالف الوثيق بين البلدَين، يسعى بوتين لاستثماره من خلال إيجاد متنفّس له عبر إلهاء الناتو وأوروبا بجبهة جديدة، إذ إن روسيا بحاجة إلى حليف داخل العمق الأوروبي يشغل الأوروبيين بصراعات جانبية عن أوكرانيا، ولذلك تنظر روسيا إلى دول البلقان كساحة جديدة يمكن من خلالها الردّ على الغرب الذي يحاربها من بوابة أوكرانيا، فلماذا لا تستخدم هي أيضًا بوابة صربيا لفعل الشيء نفسه؟
إضافة إلى ذلك، فإن عين موسكو مسلّطة على هذه المنطقة كجزء من بسط طموحها التوسعي، أو ما تعتبره جزءًا من أمنها القومي، حيث تسعى لإحباط تطلُّعات الناتو نحو البلقان، ومنع دول غرب البلقان: البوسنة والهرسك، وألبانيا، وكوسوفو، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، وصربيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
تصدير الأزمة.. الوحل الروسي
يعدّ الجيش الصربي صغيرًا من ناحية التسليح، وفي الواقع لا تمتلك بلغراد أية مقومات كبيرة من الناحية السياسية أو العسكرية تمكّنها من دخول حرب طويلة من دون مساعدة روسيا والصين، هنا فقط قد تتغيّر الموازين.
في العام الماضي، زاد النشاط الروسي في الاقتصاد والسياسة الصربية بشكل كبير، وقد تعاملت بلغراد بحفاوة مع بوتين، وأبرم البَلدان 3 اتفاقيات كبيرة للتنسيق الأمني والتعاون العسكري والسياسية الخارجية، وأخرى خاصة بالغاز.
وقد ركّز الاستثمار الروسي بشكل خاص على قطاع الطاقة في صربيا، وتعتبر روسيا المورد الرئيسي للسلاح والطاقة إلى بلغراد وتمتلك أكبر شركة طاقة فيها، حيث تهيمن شركة غازبروم على قطاع الطاقة بامتلاكها 56% من صناعة النفط والغاز بصربيا.
كذلك استثمرت روسيا بقوة في السنوات الماضية في وسائل الإعلام الصربية، والتي سعت إلى تعبئة الجمهور وتغذية الأحقاد ونشر خطاب الكراهية والمعلومات الخاطئة، خاصة فيما يتعلق بكوسوفو، ولذا فإن معظم وسائل الإعلام الصربية تقف إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا.
“نحن معرّضون لجهود حثيثة من قبل روسيا لتقويض كوسوفو وزعزعة الاستقرار في غرب البلقان بأكمله”.. فيوسا عثماني، رئيسة كوسوفو
وبجانب ذلك، قامت الصين، أحد حلفاء صربيا، منذ أشهر بتسليم بلغراد طائرات حربية ونظام دفاعي متطور في عملية “شبه سرّية”، رغم تحذيرات واشنطن لصربيا من أن شراء أسلحة صينية سيؤثر على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
قد تكون كوسوفو هي قطعة الشطرنج للرئيس الروسي، ولذا فإن الرسالة التي تريد موسكو إيصالها إلى أوروبا من خلال التصعيد الأخير الذي حدث في كوسوفو، هو أن التصعيد ضدها في أوكرانيا يعني تصعيدًا ضد الأوروبيين في البلقان، وأن بإمكان روسيا إشعال المزيد من الحروب رغم إرهاقها وكسر سياستها الخارجية، فالتوترات العرقية المتفاقمة في البلقان تعدّ فرصة سهلة لروسيا.
جبهة كوسوفو قد تشتعل في أي لحظة، فهي بؤرة توتُّر وصراع، ولذلك زجّت موسكو بكامل ثقلها السياسي للمناورة بورقة كوسوفو، واستغلت خوف الأوروبيين من إشعال فتيل الحرب بالمنطقة، خصوصًا أن بوتين يراهن على أن أوروبا لن تستطيع تحمُّل لاجئين جدد ولن تتحمّل أزمة اقتصادية جديدة إذا اندلعت حرب في كوسوفو.
ويلاحَظ أن بوتين يتحدث عن كوسوفو كثيرًا منذ حربه على أوكرانيا، حيث أطلق الكرملين مؤخرًا تصريحات تدعم ما أسماه الحق الصربي الكامل لاسترداد كوسوفو، وأعرب بوتين عن تأييده الشديد للسياسة الصربية تجاه كوسوفو، وراح يقارن بين سماح الغرب بانفصال كوسوفو وعدم سماحه بانفصال شبه جزيرة القرم أو دونيتسك ولوغانسك، أي أنه ربط بين النزاعَين، وزعم أن ما يفعله بأوكرانيا هو نفس ما فعله الغرب بكوسوفو، ولذلك رحّبت بلغراد بتصريحات بوتين، واستضاف الرئيس الصربي منذ أيام قليلة السفير الروسي، ألكسندر خارتشينكو، وشكره على مساعدة بلاده بشأن كوسوفو.
في الواقع، التأثير الروسي خبيث جدًّا، وبشكل عام فإنه يشكّل تهديدًا أمنيًّا لغرب البلقان بأكمله، حيث تريد روسيا الفوضى في كوسوفو تحديدًا، لأن عدم استقرارها سيكون له عواقب على الأمن الأوروبي الداخلي، وهذا ما اعترف به الساسة الأوروبيون، حيث صرّح بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بالقول: “لا يمكننا أن نسمح بأن يكون البلقان ملعبًا آخر لمساعي الرئيس الروسي الخبيثة”.
كما أكّد رئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، على أن مجموعة الذئاب الليلية وفاغنر الروسية ناشطة في شمال كوسوفو ومتورطين في إقامة المتاريس وحواجز الطرق الأخيرة.
حدود كوسوفو الشمالية هي تحت حماية قوات حفظ السلام التابعة للناتو، وقد أعربت هي الأخرى عن خطورة الوضع الأخير، وطلبت الإمدادات وقامت بالمزيد من الانتشار في المنطقة.
لم يتغير سلوك صربيا كثيرًا عن التسعينيات، فحتى الآن لا تعترف بلغراد بالجرائم التي ارتكبتها، ولم تدفع التعويضات عن الدمار الذي خلفته في كوسوفو، ناهيك عن أن تفتح ملف الكوسوفيين المفقودين.
كوسوفو لها عمق استراتيجي وهو ألبانيا الأمّ، كما أن تركيا ما زالت تدعمها بقوة، حيث قامت بتزويد كوسوفو وألبانيا منذ أسابيع بمسيّرات تركية، لكن رغم ذلك لا تمتلك كوسوفو جيشًا قويًّا يمكّنها من الدفاع عن نفسها، ولذلك أعربت حكومة كوسوفو عن خطورة الوضع الحالي، ويبدو أنهم يستحضرون ما حدث في التسعينيات، لذلك تخشى الحكومة الكوسوفية من تكرار الإبادة الجماعية أمام أعين قوات الأمم المتحدة والناتو كما حدث سابقًا، فالصرب هو أكثر فصيل قومي ارتكب مجازر وتطهيرًا عرقيًّا في التسعينيات.
ما زالت الحرب ماثلة في الأذهان، ولا تزال الذاكرة الشعبية لألبان كوسوفو حافلة بجرائم الصرب، ولا شكّ أن بلغراد سبب رئيسي من أسباب مآسي الكوسوفيين، ويظل مستقبل كوسوفو إشكاليًّا ومصدرًا للقلق، وما لم تتعلمه بلغراد طوال هذه المدة هو أن الحقائق الجغرافية والتاريخية أقدر على البقاء من الهيمنة العسكرية والسياسية.
ربما ترى صربيا أن الفرصة مواتية لتنفيذ أجندة الروس والسير على خطى بوتين كي تستعيد كوسوفو، وهذا ليس بمستبعد، فمع المتطرفين يجب التحيُّن لأي وضع، انطلاقًا من الأخذ في الاعتبار أن عقلية ارتكاب الجرائم ما زالت ماثلة اليوم، فرئيس جمهورية صربيا الحالي، ألكسندر فوتشيتش، كان وزير الإعلام في عهد ميلوسوفيتش في التسعينيات، إضافة إلى أنه بنى حياته السياسية على مسألة الصراع مع كوسوفو، ولن يكون في منصبه لولا استغلال هذا الصراع.
تقول رئيسة الوزراء الصربية، آنا برنابيتش، والتي لا تعترف بالإبادة الجماعية في سربرنيتسا، في ردّها على سؤال الصحفي سيباستيان عن سبب عدم محاسبة المسؤولين في الجيش والشرطة الذين ارتكبوا جرائم حرب في التسعينيات: “صربيا وأنا فخوران تمامًا بالطريقة التي تعاملنا بها مع قضايانا في الفترات السابقة”.
في الواقع، لم يتغير سلوك صربيا كثيرًا عن التسعينيات، فحتى الآن لا تعترف بلغراد بالجرائم التي ارتكبتها، ولم تدفع التعويضات عن الدمار الذي خلفته في كوسوفو، ناهيك عن أن تفتح ملف الكوسوفيين المفقودين، فما زالت السياسات الميلوسوفيتشية لتأسيس صربيا الكبرى حاضرة بقوة، يكفي فقط أن يصل متطرف ثانٍ إلى القيادة في بلغراد لينفجر الوضع في أي وقت.