تواصل الإنسانية انتصاراتها العظيمة، ويبقى الإخاء فنارة الحياة التي لا تنكسر مهما كانت شدة الأمواج المتلاطمة وقوة الرياح العاتية، فعلى مدار الأيام الثماني الماضية، منذ أن ضرب الزلزال المدمر جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 فبراير/شباط الحاليّ، مخلفًا وراءه 37 ألف قتيل (31643 في تركيا و5801 في سوريا)، تلمع معادن الخيّرين حول العالم ممن هبوا لمساعدة المنكوبين.
وجنبًا إلى جنب المساعدات الرسمية التي تقدمها حكومات العالم، فضلًا عن تلك المقدمة من شعوب البلدان العربية، رسمت الجاليات الإسلامية في شتى بقاع الأرض واحدة من أنصع لوحات الإنسانية صفاءً ونقاءً، تسابق في تقديم يد العون والإغاثة في مشهد أشبه بانتفاضة إسلامية تؤصل لقيم الإخاء والتكافل ووحدة الصف الإسلامي الذي فرقته الخلافات والرؤى السياسية والأيديولوجية.
دومًا ما كان يتهم المسلمون في بلدان العالم بالتشرذم رغم الأرضية العقدية المشتركة الكفيلة لأن تجمعهم في بوتقة واحدة، لكنها المؤامرات والمخططات التي حيكت ضدهم فحالت دون ذلك، غير أن ما حدث تعاطيًا مع زلزال تركيا وسوريا كان حدثًا استثنائيًا يعكس خصوصية المسلمين والعرب بوجه عام وتمسكهم بمرتكزاتهم الثابتة رغم عوامل التعرية العلمانية.
حملات فوق المنابر
خصصت عشرات المنابر في مختلف دول العالم خطبة الجمعة الأخيرة للحديث عن الزلزال المدمر وشرعية إغاثة المتضررين والوقوف إلى جانبهم، مستندة إلى صحيح الدين، قرآن وسنة، حيث صدرت الفتاوى التي تجيز دفع زكاة المال وتعجيل إخراجها للمنكوبين وذويهم.
وبالتوازي مع الحملات الشعبية الواسعة حث الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على دفع الصدقات وتعجيل دفع الزكاة، اعتبارًا للمصلحة الشرعية، كما أجاز إغاثة المتضررين من الكوارث بصفة عامة ومنها الزلازل بالدفع من أموال الزكاة الحاضرة أو المُعجلة لسنة أو لسنتين، بشرط أن تذهب هذه الأموال إلى المُستحقين.
وفي هذا السياق أكد أستاذ الفقه وأصوله بكلية الشريعة في جامعة قطر، سلطان الهاشمي، أن تضامن المسلمين من منكوبي الزلزال في تركيا وسوريا واجب شرعي، لافتًا في تصريحات صحفية له أن “الآن وقت المؤازرة، ووقت المواساة لإخوتنا في تركيا وسوريا، لذلك أنا أدعو إلى أن تكون هناك حملة إغاثة عالمية، يتشارك فيها المسلمون جميعًا، حتى نثبت للعالم كله أننا أمة عظيمة ومتفردة ومتضامنة وأمة رحمة”، مؤكدًا أن “إخواننا في سوريا أشد حاجة من إخواننا في تركيا، لأنهم يعانون من الفقر والبرد والزلزال والأوضاع الاقتصادية والسياسية، فهم أشد حاجةً من غيرهم”.
كما أصدرت لجنة الاجتهاد والفتوى في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فتوى شرعية قالت فيها: “بعض المتضررين من الزلزال فقدوا كل ما يملكون من بيت أو مال أو ولد وعائلة، فهم داخلون في أكثر من مصرف من مصارف الزكاة، إما لكونهم من الفقراء أو الغارمين أو أبناء السبيل (المشردين)”، مضيفة “يجوز دفع الزكاة للفقراء والغارمين وأبناء السبيل من متضرري الزلزال”.
الفتوى ذاتها أصدرها رئيس رابطة علماء الشريعة بدول الخليج العربي، عجيل النشمي، الذي أوضح أن لمنكوبي الزلزال “أولوية البذل على غيرهم، لعظم الفاجعة وكثرة منكوبيها، فهم قد فقدوا أموالهم ومساكنهم، بل فقد الكثير منهم أهليهم وذراريهم، وتشردوا عن قراهم”، وأضاف “متضررو الزلزال يستحقون الزكاة بوصف الفقر، وبوصف كونهم من أهل السبيل المشردين”.
وفي بيان له قال “المجلس الإسلامي للإفتاء” (مقره في مدينة أم الفحم شمال “إسرائيل”): “هذه المحنة الشديدة والكارثة الإنسانية تسوغ تعجيل الزكاة وإخراجها لأهل الاستحقاق في تركيا وسوريا”، مضيفًا “يجب دفع زكاة المال لجمعيات شرعية موثوق بها لتضعها في مصارفها الشرعية الصحيحة”.
آسيا… هبة إسلامية
كان لمسلمي آسيا النصيب الأكبر في سباق الخير هذا، فبجانب التبرعات التي جمعها مسلمو الخليج، التي تجاوزت مئات الملايين من الدولارات (حصيلة حملة التبرعات الشعبية في السعودية فقط في أول 3 أيام من وقوع الزلزال بلغت 66.6 مليون دولار بحسب منصة ساهم الخيرية) كان حضور مسلمي البلدان الأخرى لا يقل قيمةً وأهميةً وتأثيرًا.
ففي باكستان، أعلن رئيس الوزراء شهباز شريف، عن انطلاق العديد من حملات التبرع والدعم لمتضرري الزلزال، لافتًا في تغريدة له على تويتر أن مواطنًا باكستانيًا مقيمًا في الولايات المتحدة تبرع وحده بمبلغ 30 مليون دولار لإغاثة الأسر المتضررة من تلك النكبة، مضيفًا “هذه الأعمال الخيرية تمكن البشرية من الانتصار على الصعاب، التي يبدو حلها مستعصيًا”.
وهناك لجان شعبية ورسمية مشكلة في باكستان وكازاخستان وأذربيجان وإندونيسيا وماليزيا تم تشكيلها بمعرفة الحكومات لجمع الأموال ومواد الإغاثة لضحايا الزلزال، وتجتمع تلك اللجان بشكل يومي لاستلام التبرعات وتسليمها إلى المناطق المنكوبة عبر النوافذ الرسمية والمدنية.
وفي روسيا أعلنت المؤسسة الخيرية “الزكاة” التابعة للإدارة الروحية لمسلمي روسيا، عن تنظيم حملة تبرعات لمساعدة تركيا وسوريا، فيما قدم مفتي المسلمين هناك، علاء الدينوف، تعازيه للضحايا قائلًا: “باسم المؤمنين في روسيا وبالأصالة عن نفسي، أتقدم بأحر التعازي لذوي الضحايا وأصدقائهم ولكل من عانوا من هذه المأساة، ألهمكم الله تعالى الصبر والحكمة على تحمل هذا المصاب”، مؤكدًا على ضرورة التوحد والتعاون من أجل مساعدة المنكوبين، وأضاف “مشاريعنا الخيرية ليست موجهة فقط إلى المسلمين وحسب، ولكن لجميع الناس، في المشاريع الدولية، نحن نمثل روسيا، وهي دولة متعددة القوميات والطوائف، لذلك نحن ندعم كل من يحتاج المساعدة”.
لماذا ننشر قصص الفقراء الذين يقدمون ما يمكنهم فقط وليس الأغنياء الكرام أيضاً؟
رجل واحد من أهلنا في باكستان ??.. يدخل السفارة التركية في أمريكا ويسلمهم 30 مليون دولاراً لمنكوبي #زلزال_تركيا_وسوريا ، ويغادر دون أن يعلم أحد مَن هو!
ربحت الصفقة يا أخي.. والحب لأهلنا في الباكستان ❤️ pic.twitter.com/zVhKmuiDdj— Dr. Abdallah Marouf د. عبدالله معروف (@AbdallahMarouf) February 12, 2023
حضور قوي للمسلمين في أوروبا
حركت المأساة التي شهدتها تركيا وسوريا مشاعر الجالية المسلمة في أوروبا التي تشكل رقمًا صعبًا في الشارع الغربي بصفة عامة، حيث تسابقت عشرات المؤسسات الخيرية التابعة للمراكز الإسلامية في العواصم الأوروبية لجمع التبرعات وحث أبناء المسلمين على المشاركة في إغاثة المنكوبين.
ففي بريطانيا أطلقت العديد من المؤسسات الخيرية الإسلامية والمدارس والجامعات حملات دعم وتأييد وجمع تبرعات لسوريا وتركيا، وفتح الباب لجمع التبرعات من الأطفال في الأيام الماضية وسط إقبال كبير، وتشير التقديرات الأولية إلى جمع أكثر من 63 مليون دولار تبرعات، فضلًا عن مئات الأطنان من المساعدات العينية.
الأمر ذاته في هولندا التي تمثل الجالية التركية رأس هرم الجاليات الإسلامية هناك، حيث شهدت المساجد إقامة صلاة الغائب على أرواح ضحايا الكارثة، واكتظت بالدعاء وحث المسلمين على جمع التبرعات لمساعدة جهود الإنقاذ، فيما تبنت المراكز الإسلامية هناك ورموز الجالية حملات إغاثة لجمع المواد اللازمة مثل البطانيات وحفاضات الأطفال والملابس الشتوية والمدافئ.
للراغبين المتواجدين في اسبانيا في التبرع لضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، يمكنكم التواصل مع الصليب الاحمر الاقرب الى مكان سكنكم والتبرع عبره.#زلزال_تركيا_سوريا #supportSyria pic.twitter.com/sz6IXm9XIR
— Mariane Antoun (@marianeaantoun) February 9, 2023
ويقول السيد خضير، هولندي من أصل مصري، يقيم في أمستردام، إنه منذ اليوم الأول لوقوع الزلزال اجتمع العشرات من أبناء الجالية المسلمة في هولندا في أحد المراكز التابعة لرجال أعمال أتراك واتفقوا على إطلاق حملات شعبية في كل أرجاء المملكة لجمع التبرعات، مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن الحملة لاقت ترحيبًا كبيرًا وتفاعلًا ملحوظًا من الجميع، ليس من المسلمين فقط، بل إن بعض الهولنديين من المسيحيين تبرعوا كذلك تعاطفًا مع الجالية التي تربطها علاقات قوية بالمجتمع الهولندي بشتى أطيافه.
لم يختلف الأمر كثيرًا في فرنسا، فرغم الخطاب الشعبوي المتصاعد بحق المسلمين هناك، فإن عشرات المبادرات الإنسانية تم إطلاقها في مختلف المدن لجمع تبرعات عاجلة، فيما شاركت بلديات فرنسية وكيانات رسمية في حملات الإغاثة التي لاقت تفاعلًا كبيرًا.
وانطلقت عشرات الدعوات للتبرع في مساجد البوسنة والهرسك، مثل مسجد “غازي خسرو بك” التاريخي في سراييفو، ومسجد تشارشي في سربرنيتسا، ومساجد الجبل الأسود، إلى جانب مساجد مدينة نوفي بازار التي تقطنها أغلبية مسلمة في صربيا، وقد لاقت تعاطفًا ودعمًا كبيرًا من الجميع.
#تركيا #زلزال #AFAD
ارقام الحسابات البنكية التي يتم من خلالها التبرع لضحايا الزلزال عبر حساب AFAD منظمة إدارة الكوارث والطوارئ الانسانية التركية والتي تتبع للحكومة التركية ستجدون فيها ارقام كل الحسابات البنكية علي هذه الرابط?https://t.co/EouJQph3xX
ضع أموالك حيث تصل لمستحقيها pic.twitter.com/FXFK1SwWI1— Yusuf Mustafa Emlak (@YMustafaEmlak) February 8, 2023
مسلمو أمريكا.. 100 مليون دولار
أمريكيًا.. قال المجلس الأمريكي للمنظمات الإسلامية (الجهة التي تمثل الجالية المسلمة في أمريكا)، إن المسلمين في الولايات جمعوا نحو 100 مليون دولار من المساعدات المادية والعينية للمتضررين من الزلزال، فيما أوضح الأمين العام لمكتب الإدارة المركزية، أسامة جمال، في بيان منشور على موقع المجلس، أن هناك استجابة قوية وسريعة لدعوات التبرع والدعم، لافتًا أن تلك الاستجابة في مثل تلك المواقف أصبحت سمة مميزة للمجتمع المسلم في أمريكا، وأن منظمات الإغاثة الإنسانية هناك تعمل بلا كلل على مستوى العالم، وتابع: “فور وقوع الزلزال وجهنا نداءً طارئًا إلى كل المسلمين في أمريكا وبدأت المساهمات تندفع من جميع الأنحاء”.
بدورها دعت النائبة الأمريكية المسلمة إلهان عمر، المسلمين في بلادها وفي جميع بلدان العالم بالتبرع والمساعدة لإنقاذ المنكوبين في سوريا وتركيا، وعلى حسابها على توتير كتبت تقول: “الأمر محبط تمامًا، لأن هناك أرواحا فُقدت، وأحباء ذهبوا في ثانية وليس مجرد أرقام”، وحثت على المشاركة في سباق الخير قائلة “بينما ندفع حكومتنا والحكومات الأخرى للمساعدة، أرجوكم التبرع والدعم بأي حال من الأحوال”، مختتمة تغريدتها: “أرسل كل الحب والدعاء لأصدقائنا من السوريين والأتراك هنا وفي كل مكان آخر حول العالم”.
وفي كندا افتتحت مراكز عديدة للإغاثة وجمع التبرعات، وذلك بالتنسيق مع القنصليات العامة التركية في مدن تورنتو ومونتريال وفانكوفر، وشارك في تلك الحملات الجالية المسلمة هناك بجانب الشعب الكندي بصفة عامة الذي تفاعل بشكل كبير مع تلك الكارثة.
This is devastating. These are lives lost, loved ones who were gone in a second and not just numbers. As we push our government and other governments to help, please donate and support anyway you can.
Sending dua and love to the Syrian and Turkish people here and abroad ? https://t.co/rS4rjAsJPO
— Ilhan Omar (@IlhanMN) February 12, 2023
إفريقيا والدعاء الذي لا يتوقف
منذ اليوم الأول للزلزال في السادس من الشهر الحاليّ فتحت مساجد إفريقيا أبوابها للصلاة على أرواح الضحايا واللهث بالدعوات التي لم تتوقف طيلة الأيام الثماني الماضية، فيما تم تخصيص خطبة الجمعة 10 فبراير/شباط 2023 للدعاء وطلب الدعم والمساعدة وإغاثة المنكوبين في البلدين المسلمين.
ففي الكاميرون حرص أئمة المساجد هناك على التأكيد على وحدة الصف المسلم في مثل تلك الأزمات وضرورة التكاتف بالمال والدعاء والترحم على أرواح الضحايا، وفي جنوب إفريقيا شدد الدعاة على بذل كل ما هو مستطاع لإنقاذ العالقين والضحايا تحت الأنقاض في البلدين المنكوبين.
كما حذر العلماء في نيجيريا من التخاذل عن نصرة المسلمين وقت الكوارث، داعين إلى تبني موقف موحد يعكس وحدة الأمة وثباتها ويؤصل مبادئ التكافل التي طالبت بها الشريعة وأقرتها مذاهب الفقه المختلفة، أما في السودان فوجه الدعاة هناك رسالة إلى العالم الإسلامي ناشدوهم فيها بالاتحاد والتضامن لمواجهة مثل هذه المصائب.
وفي بعض البلدان كالصومال وجيبوتي وجهت وزارة الشؤون الدينية لديهما لتلاوة القرآن الكريم داخل كل المساجد الرئيسية على مدار اليوم والدعاء للضحايا في مختلف الصلوات الخمسة، بجانب حث القادرين من الشعب، من في الداخل أو الخارج، على المساهمة في التبرع ولو بالقليل لدعم جهود الإنقاذ والإغاثة.
ومع تزايد أعداد القتلى وارتفاع معدلات الجرحى والمصابين، وتفاقم أوضاع المشردين والنازحين في ظل تلك الأجواء الباردة التي تتعاظم معاناتها بتواضع الإمكانيات وندرتها، تبقى حملات الدعم والمساعدات التي تقدمها الشعوب الإسلامية والعربية وبلدانهم بجانب المجتمع الدولي هي خيط الإنسانية الأكثر حضورًا، والمداد الذي يجب ألا يتوقف حتى إغاثة آخر متضرر من تلك المأساة التي – كما أنها عرت ازدواجية المعايير وتواطؤ بعض الأنظمة والكيانات – كشفت عن انتصار الفطرة الإنسانية السليمة – قبل تلوثها بالأدلجة – على الخصوم كافة.