يترقب السودانيون توقيع اتفاق نهائي بين القوى السياسية والمدنية والحكّام العسكريين في مطلع أبريل/ نيسان المقبل، يعقبه توقيع الدستور الانتقالي تمهيدًا لإعلان حكومة مدنية في الـ 11 من الشهر ذاته، تُنهي حكمًا عسكريًا استمرَّ 17 شهرًا فاقم أزمات السودان الاقتصادية والإنسانية والأمنية، بصورة جعلت الحياة اليومية بالكاد تُحتمل.
وأعلن هذه التواريخ المتحدث باسم العملية السياسية خالد عمر يوسف، ليل الأحد 19 مارس/ آذار الحالي، بعد اجتماع عُقد في القصر الرئاسي ضمَّ قائدَي الجيش والدعم السريع والقوى السياسية والآلية الثلاثية المؤلَّفة من بعثة الأمم المتحدة المتكاملة في السودان والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “الإيقاد”، إضافة إلى ممثلين من أمريكا وبريطانيا والإمارات والسعودية والاتحاد الأوروبي.
ودخل الحكّام العسكريون والقوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري في المرحلة الأخيرة من العملية السياسية في 8 يناير/ كانون الثاني المنصرم، للتوافق على قضايا إصلاح قطاع الأمن والدفاع، العدالة الانتقالية، تقييم اتفاق السلام، تفكيك بنية النظام السابق وحلّ أزمة شرق السودان.
مسائل عالقة
تحدّث خالد عمر يوسف عن ترتيبات يجريها العسكريون والمدنيون والآلية الثلاثية التي تيسّر العملية السياسية، لعقد ورش عمل الإصلاح الأمني والعسكري، على أن يُعلن ميقات انعقادها خلال أيام، وذلك بعد الفراغ من تنظيم مؤتمرات بقية قضايا الاتفاق الإطاري.
ويتوقع أن تُناقش هذه الورش مسائل عسكرية حسّاسة تتعلق بالسيطرة والقيادة وتحرك القوات، إضافة إلى تحديد تواريخ دمج قوات الدعم السريع وجيوش الحركات المسلحة الموقّعة على اتفاق السلام في الجيش.
حتى لو استطاعت الحكومة المدنية تحقيق بعض النجاح في الملفات الشائكة التي تنتظرها، إلا أن مخاوف الانقلاب عليها بواسطة قائد الجيش تظل قائمة، فهو لا يضمر نية الانقلاب بل أعلنها صراحة.
وتحاول القوى المنخرطة في العملية السياسية تجاوز الخلافات بين قادة الجيش والدعم السريع حيال عدد من القضايا، بالإسراع في تشكيل الحكومة المدنية ليقع على عاتقها حلّ هذه الخلافات، ما يزيد التحديات التي يتوقع أن تُواجهها.
وقال خالد عمر يوسف إن الاجتماع اختار لجنة لصياغة مسودة الاتفاق النهائي تتكون من 11 شخصًا، تضم ممثلًا للجيش وآخر للدعم السريع والبقية من القوى المدنية الموقّعة على الاتفاق الإطاري، مُنحت أسبوع واحد للفراغ من أعمالها.
وتعتمد اللجنة، وفقًا ليوسف، على الاتفاق الإطاري والإعلان السياسي ومشروع الدستور الانتقالي، وتوصيات ورش عمل قضايا: التفكيك والعدالة، وتقييم اتفاق السلام وأزمة الشرق، وإصلاح قطاع الأمن والدفاع.
وأعدّت لجنة تسيير نقابة مشروع الدستور الانتقالي الذي يتحدث عن سلطة مدنية كاملة، قبلَ قادة الجيش والدعم السريع أن يكون أساسًا لإنهاء الأزمة السياسية التي بسببها نفّذوا انقلابًا عسكريًّا على حكومة الانتقال في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لينخرطوا في تفاهمات مع قوى سياسية أبرزها ائتلاف الحرية والتغيير، أسفرت عن توقيعهم على الاتفاق الإطاري.
رفض مستمر للعملية السياسية
تسعى الحرية والتغيير إلى استقطاب قائد حركة تحرير السودان وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، ورئيس حركة العدل والمساواة ووزير المالية جبريل إبراهيم، ونائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل جعفر الميرغني، إلى العملية السياسية، لكنهم يُطالبون بتجاوز الاتفاق الإطاري والتفاوض على توقيع اتفاق جديد.
وترفض الحرية والتغيير انضمام أطراف الكتلة الديمقراطية، عدا مناوي وجبريل والميرغني، إلى العملية السياسية باعتبارهم أذرعًا للجيش، حيث ساهموا في تهيئة الأوضاع العامة للانقلاب العسكري ودعمه لاحقًا.
وأرسلت الآلية الثلاثية دعوات إلى مناوي وجبريل والميرغني لحضور اجتماع القصر الرئاسي، لكنهم قاطعوه بذريعة أن العملية السياسية يجب أن تشمل الكتلة الديمقراطية التي تتكوّن من جماعات مسلحة، هي حركة تحرير السودان والعدل والمساواة وحركة تحرير، إضافة إلى زعماء عشائر وقوى سياسية أبرزها الحزب الاتحادي جناح جعفر الميرغني.
وعملت الكتلة الديمقراطية على تقويض العملية السياسية، بمشاركتها في ورشة عُقدت في العاصمة المصرية، القاهرة، في مطلع فبراير/ شباط الماضي مع قوى تدعم الحكم العسكري، خلصت إلى إعلان تكتل تنسيقي جديد وتعديلات على الوثيقة الدستورية تمنحها صلاحيات واسعة من بينها تشكيل الحكومة.
وطموح تشكيل الحكومة دفع الكتلة الديمقراطية إلى التهديد بعدم الاعتراف بأي حكومة مدنية تشكَّل من العملية السياسية، وذلك في حديث مناوي: “إذا تشكّلت أي حكومة بطريقة إقصائية إلا أن تديرنا بالقوة”.
أمام السلطة المدنية تحديات معقدة وشائكة، منها انعدام الأمن والأزمة الاقتصادية، والاستقطاب الأهلي، وتحقيق العدالة والسلام، والجماعات المسلحة الجديدة، والخلافات بين قادة الجيش والدعم السريع.
وفشلت جميع ضغوط الجيش، بما في ذلك الحرب الكلامية مع الدعم السريع، والسماح بأنشطة جماعات مسلحة جديدة في شرق وشمال ووسط السودان، وإطلاق يد النظام السابق؛ في إجبار الحرية والتغيير على تغيير موقفها من قبول انضمام كامل أطراف الكتلة الديمقراطية إلى العملية السياسية.
ويُمارس قادة الجيش هذه الضغوط من أجل إنتاج حكومة مدنية يتحكمون فيها، عبر استثمار مخاوف أطراف الكتلة الديمقراطية من فقدان مناصبها في مؤسسات الدولة، حيث من المقرر أن تشكَّل الحكومة المدنية من مستقلين.
وفي الجانب الآخر، يرفض الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي، اللذان انشقا من ائتلاف الحرية والتغيير والحركة الاحتجاجية، العملية السياسية برمّتها، لاعتقادهما أنها ستمثّل غطاءً مدنيًّا للحكم العسكري وتعزز الإفلات من العقاب.
عقبات تواجه الحكومة
في حال جرى التغلب على محاولات عرقلة العملية السياسية وإعلان الحكومة في 11 أبريل/ نيسان المقبل، الذي يتزامن مع ذكرى عزل الرئيس عمر البشير عام 2019، ستجد السلطة المدنية أمامها تحديات معقّدة وشائكة، منها انعدام الأمن والأزمة الاقتصادية، والاستقطاب الأهلي، وتحقيق العدالة والسلام، والجماعات المسلحة الجديدة، والخلافات بين قادة الجيش والدعم السريع.
وقد يكون أول تحدٍّ أمام الحكومة المدنية المرتقبة هو الاعتراف بها داخليًّا، خاصة من الحركة الاحتجاجية التي تتمسّك بمحاسبة الذين تسبّبوا في وفاة المئات من رفاقهم، وهي تقود الآن ضغوطًا على النيابة العامة لتوجيه اتهام ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد قتلة المتظاهرين، لتشمل مَن خطّطَ وشجّعَ وساعدَ على ارتكاب الانتهاكات، ما يعني توجيه الاتهام إلى قادة الجيش والدعم السريع.
وستجد الحكومة المقبلة صعوبة كبيرة في كسب ثقة الحركة الاحتجاجية، نظرًا إلى أنها لا تستطيع محاسبة قائدَي الجيش والدعم السريع، بحكم الحصانة الممنوحة لمنصبَيهما العسكريَّين اللذين يظلان فيه.
تملك الحرية والتغيير، باعتبارها المشارك الأوحد من قوى الثورة في العملية السياسية، حق اختيار من يتولى السلطة السيادية ورئيس الوزراء
ويستبعَد تمكُّن الحكومة المدنية من التغلب على الأزمات الاقتصادية، التي من بينها ارتفاع أسعار السلع الغذائية والركود وتدنّي قيمة العملة الوطنية، رغم الدعم الدولي المتوقع والقروض الأجنبية واستعادة الأموال المنهوبة، لقصر فترة ولايتها المحددة بعامَين.
ولعلّ التحدي الأكبر هو تهيئة الأوضاع لتنظيم انتخابات عامة في أبريل/ نيسان 2025، حيث يتطلب هذا تحقيق السلام مع حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، الذي يرفض أي تفاوض مع الحركة الشعبية – شمال بزعامة عبد العزيز الحلو، الذي يُطالب بفصل الدين عن الدولة وترتيبات سياسية ودستورية لضمان عدم نشوب حرب مرة أخرى.
وتشمل تهيئة الأوضاع للانتخابات إعادة 3.7 ملايين نازح، معظمهم في إقليم دارفور، إلى مناطقهم وقراهم التي فرّوا منها إبّان الحرب التي بعضها يسكنها سودانيون، وبعضها الآخر احتلها أجانب من النيجر ومالي وأفريقيا الوسطى ونيجيريا وتشاد.
وتملك الحرية والتغيير، باعتبارها المشارك الأوحد من قوى الثورة في العملية السياسية، حق اختيار من يتولى السلطة السيادية ورئيس الوزراء الذي يتشاور مع قوى الانتقال لاختيار الوزراء وحكام الولايات والأقاليم، وفقًا لبنود الاتفاق الإطاري.
وتستطيع الحرية والتغيير، خلال الـ 3 أسابيع المتبقية من إعلان تشكيل الحكومة، اختيار من يتولى السلطة السيادية ورئيس الوزراء، لكنها ستجد صعوبة بالغة في تشكيل المجلس التشريعي بالنظر إلى تجربتها السابقة قبل الانقلاب، حيث فشلت في تكوينه رغم مساعيها المكثفة آنذاك.
توقُّعات الحرب
بات كثير من السودانيين يتوقعون اندلاع مواجهات مسلحة بين الجيش والدعم السريع، في ظل استمرار الحرب الكلامية بينهما، بطريقة تُوحي بأن الخلافات بينهما لا يمكن إصلاحها.
وتتمحور هذه الخلافات في دعم قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان “حميدتي”، تسليم السلطة إلى المدنيين المنخرطين في العملية السياسية، بينما يُطالب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، بتوسيع مظلة العملية لتشمل آخرين يستطيع عبرهم التحكم في الحكومة المدنية.
ويدعم حميدتي، الذي يقول إن خلافه ليس مع الجيش إنما مع المتمسكين بالسلطة، الاتفاق الإطاري، لأنه منحه استقلالية نسبية عن الجيش، حيث نصَّ على أن رأس الدولة المدني هو القائد الأعلى لقوات الدعم السريع أسوة بالقوات المسلحة، كما أنه يحاول عبر هذا الدعم إرسال رسائل قوية إلى الدول الغربية، بتأييده المطلق للانتقال المدني والديمقراطية.
وتتضمّن الخلافات موقفهما من العلاقات الخارجية، خاصة مع روسيا وبعض دول الجوار، حيث يحاول حميدتي صناعة علاقات دبلوماسية موازية من أجل مصالحه.
ولا يمكن التكهُّن إلى أي مدى يمكن أن يصل التوتر الحالي بين الجيش والدعم السريع، وهو صراع سترثه الحكومة المدنية وستكون في خضمّه، وانحيازها لأي طرف يمكن أن يدفع الطرف الآخر إلى الإطاحة بها بالقوة العسكرية.
وحتى إن استطاعت الحكومة المدنية تحقيق بعض النجاح في الملفات الشائكة التي تنتظرها، ستبقى مخاوف الانقلاب عليها بواسطة قائد الجيش تظل قائمة، فهو لا يضمر نية الانقلاب بل أعلنها صراحة بقوله يوم الأحد 19 مارس/ آذار الحالي: “نريد حكومة مدنية تقدم للناس الخدمات وتقف على قضاياهم بالحق وليس بالتدليس والتزوير، أو أي نهج قد يقود إلى تدمير البلاد أو يوردها موارد الهلاك، والقوات المسلحة منتبهة وواعية لذلك”.