يخوض زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو الانتخابات الرئاسية التركية، للمرة الأولى، في 14 مايو/أيار المقبل، ساعيًا لتتويج مسيرته السياسية بمنصب رئاسة تركيا بعد توافق تحالف المعارضة الأساسي على تصديره للاستحقاق الانتخابي التاريخي في مواجهة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على أن تحديات جسام تعترض دربه.
ومن بين هذه العراقيل تنوع توجهات الناخبين وتناقضات المعارضة، من واقع التفاعلات الداخلية لأحزاب “الطاولة السداسية” (الشعب الجمهوري، الجيد القومي، السعادة المحافظ، الديمقراطية والتقدم، المستقبل، الحزب الديمقراطي) خاصة خلال الفترة التي سبقت إعلان اسم مرشحها التوافقي لانتخابات الرئاسة.
بداياته
ولد كمال كليجدار أوغلو في 17 ديسمبر/كانون الأول 1948، في إحدى قرى ولاية تونجلي بمنطقة شرق الأناضول، حيث تتفق معظم الروايات على خلفيته الاجتماعية، بداية من الأجواء البائسة في طفولته، ثم تواضع دخل والده، الموظف الحكومي، وإنفاقه المحدود على أسرة مكونة من 7 أطفال (هو الرابع بين أبناء العائلة السبع، ولاحقًا، أب لابنتين).
بدأ كليجدار أوغلو مشواره المهني في مجال الحسابات بوزارة المالية عام 1971، حتى أصبح مديرًا عامًا للتأمينات الاجتماعية، قبل التقاعد الطوعي منها عام 1999، وبعدها بـ3 سنوات، تحديدًا عام 2002، انضم إلى حزب الشعب الجمهوري وفاز بعضوية البرلمان التركي عن إسطنبول عام 2007، لكنه خسر رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى خلال الانتخابات المحلية في مارس/آذار 2009 أمام مرشح حزب العدالة والتنمية قادر توباش، قبل أن يصبح كليجدار أوغلو (المناصر بشدة للقيم العلمانية) رئيسًا منتخبًا لحزب الشعب الجمهوري عام 2010، بعد استقالة رئيس الحزب السابق دينيز بايكال.
التشابه في المظهر الخارجي بين كليجدار أوغلو والزعيم السياسي – الروحي للهند مهاتما غاندي (أكتوبر/تشرين الأول 1869 – يناير/كانون الثاني 1948) جعل وسائل إعلام تركية تصفه بـ”غاندي كمال”، إلا أن المقارنة النضالية لا تصب في مصلحة زعيم حزب الشعب الجمهوري، كون غاندي نجح خلال مسيرته (استمرت أكثر من 45 عامًا) في انتزاع استقلال الهند عن بريطانيا.
على أن أعظم إنجازات كليجدار أوغلو؛ قيادته لمسيرة “من أجل العدالة” لمسافة 450 كيلومترًا (من أنقرة إلى إسطنبول) عام 2017، اعتراضًا على اعتقال البرلماني في حزب الشعب الجمهوري إنيس بربر أوغلو، وإسهامه المحتمل في فوز حزبه برئاسة عدة بلديات كبرى (من بينها إسطنبول وأنقرة) في الانتخابات المحلية التركية عام 2019!
مرشح الطاولة
يرى مراقبون أن الدائرة الضيقة، المحيطة بـ “كليجدار أوغلو” تحاول تصوير معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة على أنها فرصة وليست تحديًا، خاصة مع التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى تواجه حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، مضافًا لها تداعيات كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب البلاد، مخلفًا عشرات آلاف القتلى والمصابين.
ويراهن أنصار كليجدار أوغلو على أن هذه التطورات قد تؤثر على شعبية حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وتدفع باتجاه تجديد الدماء، لكن خصوم كليجدار أوغلو يشيرون رفضه تجديد الدماء داخل حزب الشعب الجمهوري نفسه، عبر قطع الطريق على رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو رغم فرصهم المميزة خلال الانتخابات الحالية، حتى إن رئيسة حزب الجيد ميرال أكشينار، علقت على ذلك بقولها: “غابت النوايا الحسنة، وتم وضع جميع البدائل في القائمة السوداء.. يجب هزيمة العقلية القبيحة”!
تُظهر المعارك داخل حزب الشعب الجمهوري كيف تسبب كليجدار أوغلو في الدفع بمحرم إنجه (مرشح انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، منافس، كليجدار أوغلو، على رئاسة الشعب الجمهوري، خلال الانتخابات الداخلية عام 2014) إلى الانشقاق عن الحزب، قبل عامين، إثر خلافات كبيرة تفاقمت منذ انتخابات الرئاسة التركية عام 2018، حيث أسس محرم إنجه حزب “البلد” كرد فعل مباشر على إعادة انتخاب كليجدار أوغلو، رئيسًا لحزب الشعب للمرة السادسة، وسط توقعات بأن يؤثر انشقاق إنجه (بصحبة شريحة كبيرة من الكتلة التصويتية لحزب الشعب الجمهوري) على عملية التصويت في الانتخابات العامة “الرئاسية والتشريعية” المقبلة.
يطرح كليجدار أوغلو تعهدات عدة لحل مشكلات تركيا، ورغم أن البرنامج المشترك للتحالف (مذكرة التفاهم/الاتفاق السياسي) يفتقد لآليات التنفيذ، ومن بين هذه الوعود السياسية والاقتصادية: خفض التضخم في غضون عامين، إجراء التعديلات الدستورية المتعلقة بالانتقال إلى النظام البرلماني المُعزّز، تعيين رؤساء الأحزاب، أعضاء التحالف، نوابًا لرئيس الجمهورية، توزيع الوزارات على أساس عدد النواب المنتخبين من قِبل الأحزاب المكونة للتحالف في الانتخابات التشريعية، تعيين وإقالة الوزراء بالتوافق تعيين عمدتي إسطنبول وأنقرة، نائبين لرئيس الجمهورية، وفقا للمهام المحددة التي يراها مناسبة.
تحديات
لكن رغم نجاح كليجدار أوغلو في الحفاظ على الاصطفاف المؤقت لتحالف “الطاولة السداسية”، إلا أنه يواجه 4 تحديات قد تعوق قدرته على منافسة أردوغان، وهي:
أولًا: التوجهات العلمانية، رغم بعض الشعارات الانتخابية المتعلقة بالحقوق والحريات.
ثانيًا: الانتماء للمذهب العلوي وتأثيره على خيارات بعض الناخبين.
ثالثًا: افتقاده للكاريزما على عكس مرؤوسيه في الحزب: عُمدتي بلديتي أنقرة وإسطنبول منصور يافاش وإمام أوغلو.
رابعًا: غياب الإنجازات التي تجعله يحظى بثقة الأغلبية من الناخبين الأتراك.
لم يقدم كليجدار أوغلو أطروحات جريئة لحل أزمات تركيا المستجدة والمزمنة، باستثناء خطاب إعلامي – سياسي يعتمد على عناوين عامة (حرية مؤسسات الدولة وتتويج تركيا بالديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان واستقلالية القضاء والنظام البرلماني ودعم حرية التعبير والإعلام والمساواة بين الجنسين والسلم الاجتماعي).
تخضع الانتخابات (أي انتخابات في تركيا وخارجها) لحسابات معقدة وآليات أكثر تعقيدًا لتحويلها إلى واقع، ومن ثم انتقال الشخص من مربع المرشح إلى موقع الرئيس القادر على تحقيق طموحات الناخبين، فإن هذه المعطيات تنحاز، نسبيًا، لحزب العدالة والتنمية (الحاكم) عبر حصيلة المكتسبات الوطنية التي حققها خلال أكثر من 20 عامًا.
كما يكمن جزء من نجاح الحزب الحاكم في فشل أهم منافسيه (حزب الشعب الجمهوري) وعدم قدرته على قيادة حركة التغيير، فضلًا عن حالة الاهتزاز التي تعرض لها تحالف المعارضة الرئيسي (الطاولة السداسية) بعد انسحاب وعودة زعيمة حزب الجيد ميرال أكشينار ورفضها العلني ترشيح كليجدار أوغلو لخوض انتخابات الرئاسة التركية المقبلة.
يدرك كليجدار أوغلو أن الأتراك سيستحضرون عند صناديق الاقتراع التصريحات الصادمة لميرال أكشينار بعد إعلان انسحابها من التحالف (قبل عودتها الاضطرارية له لاحقًا) لا سيما قولها: “الطاولة السداسية، لا تمثل إرادة الشعب، بعد اليوم.. الأحزاب الخمس قالت إن مرشحها رئيس حزب الشعب الجمهوري – كليجدار أوغلو – ونحن اقترحنا اسمي رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول، لسنا طاولة قمار، ولن نكون طاولة كاتب عدل للمصادقة على أقوال الآخرين، حاولنا الاتفاق لكن الحلفاء يتمسكون باسم رئيس حزب الشعب الجمهوري، نحن في مأزق، وقفنا ضد الذين أرادوا حصر مصير الأمة في شخص واحد عام 2017، وسنقف اليوم في المربع نفسه، لن أغير رأيي الذي أوضحته في اجتماع التحالف 2 مارس، وسنستمر في كفاحنا، بغض النظر عمن يقف أمامنا”!
التحذيرات السابقة لزعيمة حزب الجيد من كليجدار أوغلو وأنه “لن يكون مرشحًا قادرًا على الفوز” تتلاقى أيضًا مع تخوف الشارع التركي من فكرة الإدارة الجماعية للبلاد، ليس نتيجة التوجهات الأيديولوجية لأحزاب التحالف العلمانية والإسلامية واليمينية والقومية واليسارية فقط، لكن لأن هذا النمط القيادي الشبيه بـ”المجالس الرئاسية” سيصطدم بتناقض البرامج السياسية للأحزاب (المتحالفة بشكل مباشر وغير مباشر) في الملفات الداخلية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، والقضايا الخارجية التي تتعلق بالأمن القومي للبلاد، الأمر الذي سينعكس على آلية صناعة القرار عمومًا ويؤشر لعدم الاستقرار السياسي.
مصالحة منقوصة
حاول كليجدار أوغلو قبل 14 شهرًا مد الجسور مع المشهد السياسي في عموم البلاد طالبًا “مسامحة حزب الشعب الجمهوري”، وقال: “التسامح لا ينقذ ماضينا، بل ينقذ مستقبلنا، وأنا قررت أن أذهب في رحلة تسامح وصفاء للقلوب.. حزبنا ارتكب الكثير من الأخطاء في الماضي، لكنه اليوم على دراية بكل خطوة سيتخذها”، لكن هذه الخطوة لم تحظ باهتمام جماهيري كبير، تمامًا كإعلانه تقديم (في شهر أكتوبر/نشرين الأول الماضي) مشروع قانون “ضمان حق الحجاب للنساء وحمايته قانونيًا” للبرلمان التركي، بعدما تصدرت القضية ذات الحساسية الكبيرة المشهد الداخلي التركي بالتزامن مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية التركية، في مايو/أيار المقبل.
وحزب الشعب الجمهوري (اشتراكي- علماني) يعد أقدم حزب سياسي في تركيا، ويشكل المعارضة الرئيسية في البرلمان، تأسس عام 1919 كإطار مُنظم لمواجهة الغزو اليوناني لمنطقة الأناضول (خلال حرب الاستقلال التركية من 1919 حتى 1923) قبل أن يتحول إلى كيان سياسي في 9 سبتمبر 1923، ثم أعلن قيام الدولة التركية في 29 أكتوبر 1923 ليصبح الحزب السياسي الوحيد في البلاد، مع هامش ديمقراطي- صوري، بتعليمات من زعيم الحزب، مصطفى كمال أتاتورك، الذي سمح بتشكيل حزبين آخرين (الجمهوري التقدمي، والجمهوري الليبرالي) قبل حظرهما لاحقًا.
وبعد انقلاب عام 1980، مُنعت جميع الأحزاب من العمل في تركيا، بما فيها حزب الشعب الجمهوري من قبل المجلس العسكري، وفي عام 1984، تأسس حزب بديل باسم حزب اليسار الديمقراطي، بواسطة عضو حزب الشعب الجمهوري، بولنت أجاويد، ومع ذلك أعيد تشكيل حزب الشعب الجمهوري باسمه الأصلي في 9 سبتمبر 1992 بمشاركة غالبية الأعضاء الذين كانوا موجودين في الحزب قبل عام 1980، ويصف الحزب نفسه بأنه “مخلص لمبادئ وقيم المؤسسة الجمهورية التركية” التي يعبّر عنها شعار الحزب!
قضايا الخارج
من الداخل إلى الخارج، يعارض كليجدار أوغلو معظم نهج السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية خلال الـ20 عامًا الماضية، خاصة التحركات التركية في شمال سوريا والعراق وغرب ليبيا والخصومة السابقة مع مصر والسعودية ودول خليجية، ولا ننسى اعتراضه على قطع العلاقات التركية الإسرائيلية عام 2008، قبل عودتها لاحقًا.
لكن الملف الأكثر جدلًا يتمثل في موقفه تجاه اللاجئين السوريين في تركيا وتمسكه بـ”إرسالهم إلى بلادهم.. بصفتنا رئيس حزب الشعب الجمهوري، سنرسل جميع إخوتنا وأخواتنا السوريين إلى مناطقهم بمحض إرادتهم في غضون عامين على أقصى تقدير”، وهو أمر محل خلاف داخل تحالف المعارضة، خاصة من جانب رئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، الذي يشترط تشكيل حكومة تمثل السلطة والمعارضة في سوريا، كتمهيد لعودة اللاجئين.
يقول كليجدار أوغلو: “حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في تركيا ليس لديه مشكلة مع اللاجئين في البلاد، بل المشكلة تكمن في سياسات الهجرة الحكومية.. لماذا نغضب من اللاجئين، هم ليسوا المشكلة، يجب أن نغضب من أولئك الذين يحضرونهم، ومن يفتح لهم الباب.. إن كل من تركيا واللاجئين يعانون بسبب هذه السياسات الخاطئة”، كما ينتقد كليجدار أوغلو السياسة الأوروبية بشأن المهاجرين: “يستخدمون تركيا.. نحن لسنا مقاولًا من الباطن للدول الأوروبية”، في إشارة للاتفاق بين أنقرة والاتحاد الأوروبي عام 2016، على وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، مقابل تعهد الكتلة الأوروبية بمليارات اليوروهات لتركيا لتوفير المأوى لهم.
وتبقى الكرة في ملعب الأتراك، في حسم الماراثون الانتخابي، الذي يعد الأشد أهمية منذ تأسيس الجمهورية، قبل 100 عام.