أعاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ملف 11 ولاية جنوبية (تضررت من سلسلة زلازل مدمرة منذ 6 فبراير/ شباط الماضي) إلى دائرة الضوء مجددًا، عبر جولاته التفقدية وتعهّداته الجديدة الموجّهة إلى حوالي 20 مليون شخص يقطنون مساحة الـ 300 كيلومتر التي ضربها الزلزال.
ويتم هذا فيما تتواصل عمليات حشد الأصوات للانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) في 14 مايو/ أيار المقبل، حيث يخوض تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية مواجهة ساخنة مع المعارضة (أحزابًا وتكتلات).
تثير قضية إعادة إعمار الولايات التركية الجنوبية الجدل والشكوك بين حكومة الحزب الحاكم والمعارضة، وسط حرص من خصوم المشهد السياسي على محاولة الاستفادة من الملف في المعركة الانتخابية المرتقبة، وإن لم تتضح حتى الآن الصورة الكاملة لخطة “إعادة الإعمار” التي تتبنّاها الحكومة، بسبب استمرار تصنيف المباني المتضررة (المدمرة تمامًا، القابلة للإصلاح والصالحة للإقامة)، حيث كيف ستستفيد تركيا من تجارب إقليمية ودولية سبقتها في إعادة الإعمار؟
تحركات جديدة
تتمحور تحركات أردوغان حاليًّا حول سرعة إعادة الإعمار، وقد حرص (خلال تصريحاته الأخيرة في ولايات هاتاي وقهرمان مرعش وإسطنبول) على مدّ جسور الثقة مع قاطني المناطق المتضررة، وصناعة حالة اصطفاف سياسي: “لن نستسلم، سنتكاتف، وسنعيد إنشاء جميع المباني المدمرة بشكل أجمل وأفضل، وأكثر أمنًا.. وجّهنا مؤسساتنا ومواردها إلى منطقة الزلزال.. بالطبع، الانتخابات المقبلة مهمة، لكن قضايا مواطنينا بالمناطق المنكوبة بالزلازل أهم”.
ويركز أردوغان خلال جولاته الأخيرة على الدمج بين الوعود التفاؤلية والتحركات العملية للحكومة: “نحن عندما نعِدُ بشيء نوفي به، وضعنا حجر الأساس للمنازل التي بدأنا ببنائها، وسنقوم في غضون عام واحد بتسليمها، وغيرها من المنازل التي سنضع حجر الأساس لها.. سنكمل هذه المرحلة عبر إعادة بناء كل مبنى مدمر، دون إلحاق الأذى بأي مواطن، وسنواصل أعمال البناء والترميم حتى يحصل جميع مواطنينا، بالكامل، على مساكن قوية ومرفهة”.
وخلال توجيهاته للحكومة والجهات المعنية بإعادة إعمار الجنوب، قال أردوغان: “عندما نضع الخطط المعمارية للأماكن السكنية الجديدة، يجب الابتعاد، قدر الإمكان، عن السهول إلى الجبال والأماكن ذات الأرضيات القوية الثابتة.. هدفنا إحياء مدننا القديمة العريقة، حفاظًا على أصولنا التاريخية والثقافية، وتقويتها ضد الكوارث”، ما يجدد التذكير بتجارب كاشفة في إعادة الإعمار تشكّل في مجموعها محاور استرشادية للحكومة التركية.
وتشكّل تجارب اليابان وألمانيا ولبنان وإقليم آتشيه الإندونيسي إطلالة على كيفية تعامل الحكومات مع تداعيات ما بعد الكوارث (الطبيعية أو الصراعات العسكرية)، وكيف تتغلب على التحديات السياسية والاقتصادية، ودور المؤسسات والأفراد في الإعمار، فضلًا عن مراعاة المعايير الإنشائية التي تحافظ على الهوية التاريخية والوطنية خلال تنفيذ عمليات إعادة الإعمار، كما تكشف عن المخاطر المترتّبة عن الإنشاءات غير المطابقة للمعايير.
تحديد المشكلات
الحديث عن إعادة الإعمار يقودنا مباشرة صوب التجربة اليابانية، بعدما تسبّبت الحرب العالمية الثانية في تحطيم البلاد، واستسلامها في نهاية المعركة للاحتلال الأمريكي فترة 1945-1951، ثم مبادرة المحتل بتسريح الجيش الياباني ليضيف 5 ملايين عاطل عن العمل إلى عدد مماثلة من المدنيين، وسط أزمات كارثية أخرى (انهيار حاد في الاقتصاد، نقص كبير في الإنتاج والسلع الغذائية، نشاط السوق السوداء وارتفاع هائل في الأسعار)، لكن كيف نجحت اليابان في النهوض بعد تلك الكبوة؟
بادرت اليابان، أولًا، بتحديد المشكلات الأساسية التي كانت تواجه إعادة الإعمار (التضخم، انخفاض العملة ونقص الطاقة)، ثم وضعت استراتيجية عامة لمواجهة المشكلات مع توصيات محددة للتحرك، ورغم الخيارات المحدودة (تخفيض قيمة العملة بشكل حاد أو التقشف وانكماش الاقتصاد) اختارت الحكومة والشعب الياباني “تحسين الإنتاجية” وزيادة استثمارات قطاع التكنولوجيا، وترشيد استهلاك الطاقة، وفي البداية تمَّ استيعاب العدد الهائل من البطالة في قطاع الزراعة والأعمال الحرفية، مع الشروع في إعادة هيكلة الصناعات المحلية.
طبّقت اليابان في تجربة النهوض وإعادة الإعمار مبادئ حديثة في الإدارة (تعزيز العمل الجماعي، الانسجام المؤسساتي والإدارة السليمة)، ونجحت في الانتقال بالناتج المحلي الإجمالي للفرد من 1346 دولارًا أمريكيًّا عام 1945، إلى مستوى قريب من الناتج المحلي لدول الغرب (الأمريكي-الأوروبي) عام 1956، قبل أن تحتل الترتيب الثالث في الاقتصاد عالميًّا، ويرتفع الدخل القومي الإجمالي للبلاد إلى ما يقرب من 5 تريليونات دولار.
المأساة والمعجزة
ولأن تجارب إعادة الإعمار الناجحة لا تعترف بالصعوبات، فقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية بجملة خسائر كارثية (5 ملايين قتيل من العسكريين، وملايين أخرى من المدنيين خلال المعارك)، وتعرّض ثلثا البلاد للتدمير الكامل قبل تقسيمها إلى دولتَين (شرقية وغربية)، فيما أضرّت المعارك العسكرية بالبنية الأساسية والمرافق العامة، مع وجود 8 ملايين نازح أجنبي، وأزمة اقتصادية طاحنة تفاقمت آنذاك بسبب التعويضات الضخمة التي تعهّدت ألمانيا بدفعها لدول الحلفاء.
لم تقتصر الأزمة الألمانية على ذلك، فبموجب ما يُسمّى “توجيه الاحتلال العقابي” الأمريكي، بادرت الولايات المتحدة وحلفاؤها بإلغاء الجيش الألماني، وإيقاف مصانع الأسلحة والذخيرة لا سيما السفن والطائرات، وفرض قيود على الصناعات المدنية والثقيلة.
حتى أنه تمَّ تدمير حوالي 1500 مصنع، وإزالة المعدّات من 706 آخرين، مع الحدّ من صناعة وإنتاج الصلب، وتدمير معظم الغابات الألمانية عبر زيادة صادرات الأخشاب، قبل أن تتسبّب أجواء الحرب الباردة في خدمة ألمانيا.
لقد شكّلت رغبة الولايات المتحدة في تسليح ألمانيا الغربية ضد الاتحاد السوفيتي الخطوة الأولى في تحقيق “المعجزة الاقتصادية” الألمانية، جاء ذلك بعد حوالي 10 سنوات من الحرب العالمية الثانية، تحديدًا عام 1955.
لم يكن النجاح بسبب مشروع الجنرال الأمريكي جورج مارشال (Marshall Plan) فقط، لكن كان الدور الأكبر للمواطن الألماني نفسه الذي كان بمثابة كلمة السر في البناء والتنمية، بالتزامن مع تبنّي الحكومة رؤية استراتيجية تحمي الخريطة الديموغرافية، وتسهم في سرعة عودة قاطني المناطق المتضررة، وتحقيق المطالب والحقوق والهوية الثقافية (التاريخية والوطنية).
الهوية التاريخية
في تجارب إعادة الإعمار، تحاول الجهات المنفّذة الحفاظ على الهوية التاريخية والوطنية للمناطق المدمرة، حتى لا تكون النتائج محبطة للمتضررين، كما حدث خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عندما حاول المجلس اللبناني للإنماء والإعمار (منظمة حكومية تأسّست عام 1977) أن يلعب دورًا رئيسيًّا في علاج آثار الحرب (منذ عام 1975 حتى عام 1990).
لكن بعد توقيع “اتفاق الطائف” عام 1989، لم تنجح مساعي المجلس في حماية الهوية التاريخية والوطنية بالصورة المناسبة نتيجة سطوة القطاع الخاص، وفق ما حدث في تطوير بيروت (مشروع سوليدير).
ورغم محاولات القائمين على مشروع تطوير بيروت في ترميم المباني القديمة (الرومانية، البيزنطية، العربية والعثمانية)، إلا أن مساحة الحداثة الفنية (ممثلة في المباني السكنية الفاخرة والمراكز التجارية) أثّرت سلبًا في تنفيذ إعادة الإعمار التي لم تتم بالصورة المرسومة، حتى أنها فشلت في بناء التوافق ودمج المجتمع اللبناني، بعد التوسع في الإنشاءات الحديثة على حساب الهوية التاريخية والوطنية للبلاد، بما لها من أدوار مهمة.
والهوية الوطنية (National identity) مظلة لصفات وسمات خاصة بكل مجتمع، وتعدّ من قبيل الملكية المعنوية لجميع المواطنين، وتعكس الهوية الوطنية (الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، اللغة، العادات والتقاليد) روح الانتماء، ومن دونها تفقد الأمة معنى الاستقرار، وتعزز مشاعر الحب والولاء للوطن، والمفاخرة بتراثه، وفي المقابل هناك تيارات عصرية تنادي بنظرة حداثية إلى الهوية، وتدعو إلى إلغاء الهوية الوطنية أو الهوية القومية.
الخبرة والمتابعة
وإذا كانت التجارب السابقة تعكس كيفية مواجهة الصعوبات والتحديات، وتظهر أهمية مراعاة الهوية التاريخية والحضارية في إعادة الإعمار، فإن تجربة إقليم آتشيه (شمال إندونيسيا) تجدد التذكير بمخاطر سرعة الإنشاءات دون دراسة كافية، ففي 26 ديسمبر/ كانون الأول 2004 محا زلزال متبوع بتسونامي مدمر المنازل والمباني والطرق، وتسبّب في مصرع 167 ألف شخص.
جرّاء ذلك سارعت الحكومة الإندونيسية في إعادة إعمار الإقليم، وبناء حوالي 130 ألف منزل بعد جمع 7 مليارات دولار (تبرعات وأموال حكومية)، قبل أن يتضح أن معظم المباني الجديدة “غير مطابقة للمواصفات”.
وقد وضع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يده على أسباب أزمة إعادة الإعمار في إقليم آتشيه، لا سيما تواضع خبرة العناصر المشرفة على تنفيذ منازل مقاومة للزلازل، ولم يكن الهدف الرئيسي في الإنشاءات الجديدة الجودة بل زيادة عدد المنازل، حتى لو كانت غير آمنة، كما كانت التصميمات غير مناسبة للاحتياجات والموارد المحلية، بسبب غياب ممثلي المجتمع المحلي في عملية التخطيط وتنفيذ إعادة الإعمار.
وفي تجارب إعادة الإعمار توجد 3 أسُس نظرية، الالتزام بمخطط المنطقة المتضررة قبل وقوع الكارثة، مع إدخال تعديلات ترفع مستوى البنى التحتية والخدمات العامة؛ خلق هوية معدّلة للمنطقة المراد إعادة إعمارها، لحلّ مشكلات التخطيط المزمنة؛ عدم التدخل في عمليات الإعمار وترك المتضررين يتحمّلون مسؤولياتهم، بعد منحهم التعويضات المالية.
اتجاهات مهمة
وحتى الآن، لم تحدد الحكومة التركية اتجاهها في تنفيذ إعادة الإعمار (الأبنية، الطرق، المطارات، الموانئ، السكك الحديدية، الجسور، وإمدادات الغاز والكهرباء والمياه)، حيث تتعدد الاتجاهات في هذا الشأن:
أولًا، دور الدولة المركزي في إعادة الإعمار، بشرط التغلب على البيروقراطية الحكومية، والتصدي لأصحاب النفوذ، وعشوائية التخطيط، وانتشار المضاربات.
ثانيًا، الدور شبه المركزي في التخطيط، بحيث يكون تحت إشراف مؤسسات شبه مستقلة، ماليًّا وإداريًّا، ومشاركة القطاعَين الأهلي والخاص في التنفيذ والتمويل.
أما الاتجاه الثالث فهو النيوليبرالي، يهمّش حضور الدولة ويعزز التدفقات المالية، ويطلق العنان لقوى السوق ويمنح القطاع الخاص الأفضلية في إنجاز عمليات الإعمار، لكنها رؤية ضيقة للنمو في ظل المضاربة العقارية، وعدم التجانس الجمالي المعبّر عن الهوية التاريخية والوطنية، وإحباط آمال فئات اجتماعية كبيرة، حيث يتم التركيز على النواحي الجمالية والتجارية أكثر من الجوانب الاقتصادية.
أما الاتجاه الرابع فهو التضامني التشاركي، الذي يعزز التكامل بين كل الأطراف والجهات، حيث تكون هناك أولوية للمجتمع المعنيّ بعملية إعادة الإعمار في رسم الأطر العامة، مع التنسيق وتوزيع الأدوار بين جميع الأطراف المعنية: الحكومة، المتضررون، المحليات، الهيئات الأهلية والقطاع الخاص، من خلال كيانات مدنية-سياسية غير هادفة للربح، تحرص على مصالح الجميع، وتسرّع إنجاز عملية إعادة الإعمار، وتراعي في الوقت نفسه معايير السلامة العامة.
فاتورة كبيرة
من العام إلى الخاص، بادرت الحكومة التركية بالإعلان عن “صندوق مراقب لإعادة إعمار ما بعد الكوارث لإحياء المدن عقب الزلازل”، فيما قالت المسؤولة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لويزا فينتون، إن “تكلفة الأضرار الناجمة عن زلزال تركيا ستتجاوز الـ 100 مليار دولار وفق تقييم الحكومة”، مع تبايُن التقديرات المحلية والإقليمية والدولية السابقة حول فاتورة إعادة إعمار ولايات الجنوب التركي.
ومع عدم وضوح حجم مشاركة الأطراف الخارجية في إعادة إعمار جنوب تركيا، تعهّد مانحون دوليون (خلال اجتماعهم في بروكسل مؤخرًا) بـ”تقديم 7 مليارات يورو لمساعدة لتركيا وسوريا، للتعامل مع تداعيات كارثة الزلزال”، وقال رئيس حكومة السويد، أولف كريسترسون (تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي): “يبلغ إجمالي الالتزامات 7 مليارات يورو”.
وفي مداخلة عبر الفيديو خلال المؤتمر، قدّر أردوغان خسائر بلاده بحوالي 104 مليارات دولار (97 مليار يورو)، وقال: “يستحيل أن تتمكن دولة من مواجهة كارثة بهذا الحجم، مهما كان وضعها الاقتصادي”.
لكن المؤتمر الدولي للمانحين خصّص لتركيا حوالي 6.05 مليارات يورو في هيئة مِنَح (مقابل 950 مليون يورو لسوريا)، على أن تُستخدَم الأموال المخصصة في تغطية الاحتياجات الإنسانية والمساعدة في إعادة إعمار المناطق المتضررة.
تسييس الإنقاذ
تظهر أهمية الدعم الإقليمي والدولي في إعادة الإعمار، كون الملف عملية سياسية واقتصادية قبل أن يكون إعادة بناء، لأنه يؤثر على تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع بعد الكوارث، لذا تتأثر عملية إعادة الإعمار بمواقف الدوائر الاجتماعية والسياسية المحلية (الاستقطاب السياسي وخلافه)، وعلاقة هذه الدوائر بتفاعلات القوى الإقليمية والدولية (تسريع أو تقويض جهود إعادة الإعمار، أو استخدامها كامتدادٍ للصراعات)، ودور الاستثمارات والمساعدات الضرورية لإعادة توطين اللاجئين والنازحين داخليًّا.
بمعنى آخر، تعتمد عمليات إعادة الإعمار بعد الكوارث الطبيعية (من حيث الحجم والسرعة ونطاق العمل) على توافر الموارد الاقتصادية المحلية، وعوامل جيواقتصادية واعتبارات جيوسياسية تحدّد وجهة المساعدات أو القروض أو الاستثمارات تماشيًا مع الأهداف السياسية للقوى الإقليمية والدولية، كونها تشكّل فصلًا جديدًا من التنافس بين الأطراف الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية.
وقد ظهرت ملامح التسييس في استبعاد روسيا من مؤتمر بروكسل للمانحين، فيما لم تبدِ الولايات المتحدة الأمريكية والصين تحركًا جادًّا في ملف إعادة الإعمار، واكتفت كلتاهما بإرسال مساعدات وفرق إنقاذ، رغم دورهما الكبير عالميًّا في ملف إعادة الإعمار ضمن الصراع الاقتصادي بين الدولتَين، وإن كانت فرص الصين أكبر، كون الكارثة التركية على تخوم روسيا التي لن تسمح بمزيد من المكاسب للولايات المتحدة.
وتحدّد هذه الملابسات ما إذا كانت عملية إعادة الإعمار ستؤدّي إلى تعافٍ اقتصادي طويل الأجل أم أنها مجرّد إعادة تأهيل مادية للمناطق المتضرّرة من الكوارث، علمًا أن الإرث الاقتصادي قبل الكارثة يشكّل إما فرصة وإما عائقًا، يحدّد التأثير (الاقتصادي والسياسي) لإعادة الإعمار ومدى تعزيز أو عرقلة مسار التنمية الشاملة.
ويرى خبير الاقتصاد ومحلل شؤون الشرق الأوسط، سامي نادر، أن “تكاليف إعادة الإعمار في تركيا ترتبط بآثار الزلزال الذي امتد على مساحة 300 كيلومتر. هذا يتوقف أيضًا على الاستثمارات الخارجية، لأن الاقتصاد التركي سيحتاج إلى دعم خارجي لتمويل إعادة الإعمار، كون الكارثة تتزامن مع أزمة اقتصادية محلية. إعادة الإعمار ليست بناء ما تهدم فحسب، لكن إعادة بناء اقتصاد وإعادة الثقة لهذا الاقتصاد”.
استحقاقات مهمة
وقبل الانتخابات المصيرية، تبدو الحكومة التركية الحالية (كما الحكومة التي ستفرزها الانتخابات المقبلة) أمام “أسوأ كارثة طبيعية بالمنطقة الأوروبية منذ قرن” بحسب منظمة الصحة العالمية، وتتمثل “المهمة الشاقة في إعادة بناء المدن المدمرة”.
ويؤكد أردوغان أن “الأعداد النهائية للوحدات السكنية والمنازل الريفية المزمع إنشاؤها بمناطق الزلزال، مرتبطة بعمليات إزالة الأنقاض لتشييد مبانٍ جديدة تراعي الطبيعة الجغرافية والظروف الجيولوجية، حتى تكون مشاريع إعادة الإعمار أكثر مقاومة للكوارث المحتملة”.
ويلفت أردوغان النظر إلى أن تركيا تواجه (إلى جانب الزلازل) مخاطر الفيضانات والسيول والانهيارات الأرضية وانزلاقات الصخور وحرائق الغابات، وغيرها من الكوارث الطبيعية “التي تجبرنا على وضع استراتيجية شاملة لمواجهتها”، بينما يواصل أقوى مرشح معارض في انتخابات الرئاسة التركية، كمال كيليجدار أوغلو (زعيم حزب الشعب الجمهوري)، التأكيد أن الحكومة الحالية “لم تكن مستعدة للكارثة منذ 20 عامًا”.
وتشكّل الأزمات والكوارث ضغطًا على صانع القرار التركي، بصورة قد تدفعه إلى اتخاذ قرارات أو سياسات في لحظات انفعال، وتزداد المخاوف (كما في الحالة التركية) نتيجة التفاعلات السياسية التي تصل حدّ المزايدات بين خصوم المشهد العام، رغم أن التداعيات السلبية ستنعكس على الجميع.
استحقاقات مهمة
وبين تطمينات الحكومة وتشكيك المعارضة، باتت تركيا في حاجة ماسّة إلى بلورة استراتيجية لمواجهة الكوارث والأزمات والمخاطر المحتملة، لا بدَّ أن تتضمن خططًا أساسية واحتياطية، بحيث تشمل رفع كفاءة التدريب تحت مظلة “إطار سينداي” (الاستثمار في الحد من مخاطر الكوارث، والتأمين على المباني والممتلكات والأفراد)، حتى لا تتفاقم الخسائر البشرية والاقتصادية.
و”إطار سينداي” للحدّ من مخاطر الكوارث (2015-2030) أحد مخرجات مؤتمر الأمم المتحدة العالمي الثالث، المنعقد في سينداي باليابان، للحدّ من مخاطر الكوارث النادرة والمتكررة (الطبيعية والمصنوعة)، عبر تنفيذ تدابير متكاملة وشاملة اقتصادية وإنشائية وقانونية واجتماعية وصحية وثقافية وتعليمية وبيئية وتكنولوجية وسياسية ومؤسساتية، وتعزز الاستعداد للاستجابة والتعافي، ومن ثم تعزز القدرة على المجابهة.
ويعتمد نجاح عمليات إعادة الإعمار على التحضير والتخطيط، وعدم التغاضي عن الجودة، مع التنسيق الجيد والمرونة في التنفيذ، والاهتمام بالهوية التاريخية والحضارية (في المباني التراثية ومرافق القطاع العام ذات الوظائف الاجتماعية الهامة، كالأسواق والمدارس والمستشفيات وكل المرافق الخدمية) لإعادة الحياة اليومية الطبيعية، وإقناع المشاركين في التمويل باستكمال جهود إعادة التطوير الشاملة للمناطق المدمّرة.
وتعتمد فلسفة إعادة الإعمار على تأسيس بيئة قادرة على الحفاظ على التراث المعماري وإحيائه قدر المستطاع، مع الانفتاح على التجديد والتغيير المناسبَين، حتى يتمكن المواطنون من الارتباط مرة أخرى بأصولهم الثقافية التاريخية، كما يجب أخذ طموحاتهم الأخرى بالاعتبار، من خلال مشاركة المتضررين مع صانعي القرار السياسي والمخططين المتخصصين والخبراء التقنيين ومنظمات المجتمع المدني.