تَحدّد شكل المنافسة على رئاسة الجمهورية التركية في 14 مايو/ أيار المقبل، بعدما أعلنت اللجنة العليا للانتخابات القائمة النهائية التي ستخوض الاستحقاق: الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو، ورئيس حزب الوطن محرم اينجه، والمرشح القومي المتشدد سنان أوغان.
وفي المقابل يخوض الانتخابات التشريعية (التي تتم في التوقيت نفسه) 36 حزبًا سياسيًّا من إجمالي 125 حزبًا رسميًّا، بعد تأسيس الأمة، وتركيا القومي، والاتحاد الأحمر مؤخرًا.
لكن القضية التي تفرض نفسها على المشهد السياسي قبل الانتخابات المرتقبة، تتمثل في ظاهرة الانشقاقات الحزبية باعتبارها أحد مظاهر الساحة السياسية التركية، على الأقل خلال السنوات الـ 7 الماضية، بداية من خروج حزب الجيد برئاسة ميرال أكشينار من رحم حزب الحركة القومية، وانشقاق رئيسَي حزبَي المستقبل والديمقراطية والتقدم برئاسة علي باباجان، وأحمد داوود أوغلو من حزب العدالة والتنمية، وخروج مرشح الرئاسة محرم اينجه من حزب الشعب الجمهوري وتأسيسه لحزب الوطن.
ثم تأتي عودة ملف الانشقاقات الحزبية (الداخلية) إلى واجهة المشهد، نتيجة التفاعلات الأخيرة لحزب الجيد والحراك النسبي في حزب السعادة الإسلامي الحائر بين الانتصار لاتجاهه الإسلامي أو التصويت لحليفه حزب الشعب الجمهوري، وتداعيات هذه الملابسات على الانتخابات المقبلة التي تحظى باهتمام داخلي وترقُّب إقليمي ودولي.
تفاعلات حزب الجيد
اعترف رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الجيد، أرهان أسطا، بحدوث انشقاقات داخل الحزب “بسبب أزمة تحالف الطاولة السداسية -الكيان الرئيسي للمعارضة- منذ قررت زعيمة الحزب، ميرال أكشينار، الانسحاب من التحالف، ثم عودتها إلى صفوفه مجددًا”.
وحاول أرهان أسطا التقليل من خطورة الموقف: “عدد المنشقين يتراوح بين 25 إلى 30 ألف كادر حزبي”، موضحًا (لأغراض سياسية وانتخابية) أن “جزءًا منهم عاد إلى صفوف الحزب”، لكن الانتقادات اللاذعة التي وجّهتها أكشينار للتحالف السداسي خلال الأزمة الداخلية، وتأكيدها بأنه لم يعد يعكس الإرادة الوطنية، ثم معارضتها السابقة لترشيح كمال كيليجدار أوغلو لرئاسة الجمهورية، تهدد بمزيد من الانشقاقات الحزبية أو على الأقل “التصويت العقابي” ضد توجه الحزب.
وتظهر أهمية حزب الجيد (ثاني أكبر حزب داخل التحالف السداسي حصولًا على أصوات انتخابية بعد حزب الشعب الجمهوري) من زاوية أن الكتلة التصويتية الموالية له تتقدم على الأحزاب الأربعة الأخرى في التحالف (السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبل، الحزب الديمقراطي) التي تقدَّر كتلتها التصويتية بحوالي 5%، فيما يقول المتحدث باسم حزب الجيد، كورشاد زورلو، إن “معدل التصويت للحزب في الانتخابات قد يصل إلى 19.7%”.
غير أن توقعاته تتعارض مع تأثير التقلبات السياسية لزعيمة الحزب، ميرال أكشينار، وخطابها السياسي والإعلامي خلال السنوات الأخيرة ضد كيانات مؤثرة في المعارضة، ثم معركتها الجانبية مع حزب الشعوب الديمقراطي (الموالي للأكراد) والتأثير المتوقع لهذه التفاعلات على نصيب حزب الجيد من الأصوات في الانتخابات المقبلة.
وحزب الجيد الذي أسّسته ميرال أكشينار جزء من انشقاق حزبي شهير خلال مسيرتها المليئة بالتقلبات السياسية والتحولات الشخصية، منذ بدأتها عام 1994 بدعم من رئيسة الحكومة آنذاك تانسو تشيللر (زعيمة حزب الطريق القويم)، قبل شهرة أكشينار في الانتخابات البرلمانية عام 1995.
ومع تراجع مكانة حزب الطريق القويم نهاية تسعينيات القرن الماضي وفشلها في الهيمنة عليه، استقالت من الحزب صيف 2001، وكانت من مؤسّسي حزب العدالة والتنمية مع رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، لكن بعد خلافات داخلية انضمت إلى حزب الحركة القومية وتم تعيينها نائبة لرئيس كتلة الحزب في البرلمان، وبسبب انتقاداتها لرئيس الحزب، دولت باهتشلي، تمَّ استبعادها من قائمة مرشحي الحزب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، فأسّست حزب الجيد (25 أكتوبر/ تشرين الأول 2017) وتواصل قيادته حتى الآن.
الشعب شعبان
الانشقاقات الحزبية لا تهدد حزب الجيد فقط، بعدما أخذت طريقها إلى حزب الشعب الجمهوري منذ الانتخابات الداخلية على رئاسة الحزب عام 2014، عندما تنافس كمال كيليجدار أوغلو ومحرم اينجه على الزعامة.
ورغم محاولات لاحقة لمدّ الجسور والتقارب الظاهري بينهما خلال خوض اينجه لانتخابات الرئاسة التركية عام 2018، إلا أنه سرعان ما قرر الانشقاق عن الحزب التاريخي بعد خلافات حادة، مؤسّسًا حزب الوطن كردّ فعل غاضب على هيمنة كيليجدار أوغلو وإعادة انتخابه رئيسًا لحزب الشعب للمرة السادسة، وهي الخطوة التي تجدِّد القلق حاليًّا، خوفًا من تأثير الكتلة التصويتية التي انسحبت مع اينجه من حزب الشعب الجمهوري على عملية التصويت في الانتخابات العامة، الرئاسية والتشريعية، المقبلة.
وتعبيرًا عن حالة القلق المذكورة، بادر زعيم حزب الشعب الجمهوري، كيليجدار أوغلو، بزيارة اينجه (الذي يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الجمهورية، خاصة فئة الشباب)، ورغم الإيحاء بأن الزيارة لا تستهدف إقناعه بالانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية لصالح كيليجدار أوغلو، إلا أن المحور الأساسي للزيارة (وفق مصادر مطّلعة) ركّز على ضرورة اصطفاف المعارضة ومنح الفرصة للمرشح الأقوى في مواجهة أردوغان، إلا أن اينجه (ممثل تيار اليمين قبل انشقاقه من حزب الشعب الجمهوري) لا يزال يتمسّك باستكمال السباق الرئاسي، تاركًا الباب مواربًا للدعم “إذا وصلت الانتخابات إلى جولة الإعادة”.
والانشقاقات الحزبية بعضها تتمدد تداعياته بشكل واضح على الهياكل التنظيمية للأحزاب وعلى أصواتها الانتخابية ومرشحيها في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، نتيجة تأثُّر الكتل التصويتية الموالية لها بالانقسام الداخلي، كما في حالة حزب الشعب الجمهوري بعد انشقاق محرم اينجه.
وفي المقابل هناك “انشقاقات موسمية” ترتبط بفترة الانتخابات، دون تأثير كبير على مسيرة الأحزاب ومواقفها في المشهد العام، وهي حالة تنطبق نسبيًّا على حزب العدالة والتنمية الذي واجه سلسلة انشقاقات.
انشقاقات حزب العدالة والتنمية
ولم يسلم الحزب الحاكم من الانشقاقات، تحديدًا منذ ديسمبر/ كانون الأول 2013 خلال حكومة أردوغان، عندما استقالت شخصيات مهمة من الهيئة التأسيسية للحزب وممثلون له في البرلمان (كوزير الثقافة الأسبق أرتورول جوناي، والنواب هاكان شوكور وحسن يلديريم وأردال كالكان وخلوق أوزدالجا).
وكتطور للخلافات الداخلية في الحزب (منذ يونيو/ حزيران 2015 نتيجة رغبة قيادات حزبية، كأحمد داوود أغلو، في تشكيل حكومة ائتلافية بعد خسارة الحزب الحاكم للأغلبية المطلقة، وانحياز أردوغان لإجراء انتخابات مبكرة) تفاقمت الأزمة، ونتج عنها انشقاقات بداية من خريف 2019، بعد خروج أحمد داود أوغلو بحجّة “رفض التعديلات الدستورية الخاصة بالتحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي عام 2018”.
وطالت الانشقاقات التي شهدها العدالة والتنمية شخصيات ذات مكانة رمزية في الحزب وفي المشهد السياسي التركي عمومًا (نائب رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد السابق علي باباجان، وقبله الرئيس السابق عبدالله غول؛ ووزراء العدل والداخلية والمالية والصناعة والتجارة الخارجية السابقون سعد الدين أرجين، بشير أطالاي، محمد شيمشك ونهاد أرجون؛ ورئيس المحكمة الدستورية السابق هاشم كيليتش، والرئيس السابق لإدارة الشؤون الدينية محمد غورماز، ونعمان كورتولموش، وحسين جليك، وشامل طيار، وأحمد باشتشي، وسلجوق أوزداغ وغيرهم)، الأمر الذي جدّد التذكير بدور هذه القيادات في الانشقاق مع أردوغان، وتشكيل حزب العدالة والتنمية (14 أغسطس/ آب 2001) بعد خروجهم من حزب الفضيلة الإسلامي (مع أعضاء من حزب الوطن الأم وحزب الطريق القويم).
الانشقاقات التي حدثت على مستويات مختلفة في صفوف حزب العدالة والتنمية، كانت تعبيرًا عن تباين الرؤى والأفكار بين أردوغان والقيادات المذكورة (التي اضطلعت بأدوار أساسية في المشهد السياسي خلال سنوات سابقة)، لكنها لم تتحول إلى حالة “تمرد شاملة” في صفوف الحزب، وفقًا لتوقعات دوائر سياسية وبحثية (داخليًّا وخارجيًّا) زعمت آنذاك أن الآلاف من القواعد الشعبية للحزب سينضمون إلى حزبَي أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان.
حيث تكشّف لاحقًا أن الرئيس السابق، عبد الله غول، ليس طرفًا في أي حراك سياسي ضد أردوغان، الذي بادر بتشكيل لجان داخلية لتجاوز الخلل وتبنّي سياسات تعيد تماسك الحزب وتحافظ على رموزه، عبر مدّ الجسور مع المخالفين والغاضبين داخل الحزب الحاكم، وتصعيد قيادات لمناصب أعلى، كالمجلس الاستشاري الأعلى للرئاسة (هيئة عليا تمَّ تشكيلها عام 2019) ومواقع أخرى.
أزمة البدايات
الانشقاقات الحزبية، عمومًا، تعود إلى عدة عوامل (الأجواء المرتبطة بالنشأة والتأسيس، والهياكل التنظيمية والأفكار الأيديولوجية، وإدارة الأحزاب بالآليات القديمة، وصراع الأجيال، والتشكيك في المخالفين في الرأي نتيجة غياب الديمقراطية داخل الأحزاب، وطبيعة النظام السياسي ورؤيته لدور الأحزاب السياسية وأهميته، وتدخلاته الرامية إلى التحكم في المشهد الحزبي، وتزكية هذه الانشقاقات عبر تهميش وإقصاء القيادات والأفكار الجديدة، بل التآمر على وجودها داخل التنظيم الحزبي، باعتبارها تشكل تهديدًا لاستقرار الحزب وبقاء زعيمه التاريخي على رأس القيادة).
وفي الحالة التركية، ترتبط الانشقاقات الحزبية بطبيعة النظام السياسي نفسه الذي قام على مشروع الحزب الواحد منذ معاهدة لوزان (23 يوليو/ تموز 1923)، وإعلان ولادة الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الذي راح يشكّل الملامح الأساسية لتركيا، عبر فرض التحديث (سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا) مدعومًا بنظام دستوري يمنحه كل السلطات حمايةً لـ”المبادئ الكمالية” (الجمهورية، الشعبية، العلمانية، القومية، سيطرة الدولة والإصلاح)، بداية من دستور عام 1921 ثم دستور عام 1924 حتى وفاة أتاتورك عام 1938.
وخلال تلك المدة كان حزب الشعب الجمهوري يضفي المشروعية على السلطة، شبه المطلقة، على حساب تيارات وقوى سياسية أخرى دعمت حرب الاستقلال، ولم يتم السماح لها بالعمل السياسي باستثناء حزب المعارضة الوحيد (الجمهورية التقدمي) الذي تأسّس في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1924، وتمَّ حظره في يونيو/ حزيران عام 1925.
بشائر الديمقراطية
لكن لم يكن هناك قناعة بمعالم التحول نحو التعددية الحزبية منذ عام 1944، بعدما ألمح الرئيس التركي آنذاك، عصمت إينونو، إلى ضرورة وجود حزب سياسي معارض لتنفيس حالة الاحتقان السياسي في البلاد.
ومع تزايُد الانفتاح السياسي اتسعت التوجهات المعارضة داخل حزب الشعب الجمهوري قبل انشقاق 4 من أشهر قياداته (عدنان مندريس، جلال بايار، فؤاد كوبرولو ورفيق كوارلتان)، لتأسيس الحزب الديمقراطي عام 1946 وفوزه في العام نفسه بـ 61 مقعدًا برلمانيًّا، وانضمام 47 نائبًا إليه من حزب الشعب الجمهوري.
تأكدت نظرة النظام للحياة الحزبية في عام 1950، عندما فاز الحزب الديمقراطي في الانتخابات النيابية بـ 403 مقاعد (من أصل 482 مقعدًا)، لينهى هيمنة حزب الشعب الجمهوري (الحاكم حينها) وتولي جلال بايار رئاسة البلاد، وتكليف عدنان مندريس برئاسة الحكومة بالتزامن مع انفراجة سياسية-اجتماعية واضحة، والشروع في تأسيس نهضة شاملة، وانضمام تركيا حينها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
لكن حزب الشعب الجمهوري (الذي اعتاد على سياسة الحزب الواحد) لم يستسلم للهزيمة السياسية، وشارك في افتعال اضطرابات سياسية ضد حكومة عدنان مندريس، بزعم محاولة الانقلاب على هوية تركيا.
آنذاك، وقعت أحداث شغب ومظاهرات في إسطنبول وأنقرة، وبحجّة وضع حدّ للصراع الحزبي تحرك الجيش التركي ضد نظام الحكم الجديد لـ”حماية الدولة ووحدة وسلامة أراضيها، والحفاظ على مبادئ الجمهورية”، حيث سيطر الجيش (27 مايو/ أيار 1960) على الحكم برئاسة الجنرال جمال جورسيل (تولى رئاسة البلاد لاحقًا)، وتمَّ إعلان الأحكام العرفية.
كما تمَّ اعتقال عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار ووزراء قبل إعدامهم، وتمَّ حظر الحزب الديمقراطي مع منح الفرصة لحزب الشعب الجمهوري ليتصدر الحياة السياسية التركية، بعد فوزه عام 1961 بـ 173 مقعدًا من مقاعد البرلمان.
البديل يتقدّم
نجح حزب العدالة (بديل الحزب الديمقراطي) في رفع عدد المقاعد التي حصل عليها في البرلمان التركي من 158 مقعدًا في انتخابات عام 1961 إلى 53% في انتخابات عام 1965، وتمَّ تكليف زعيمه، سليمان ديميريل، برئاسة الحكومة قبل دخول البلاد في موجة ركود اقتصادي واضطرابات أمنية وسياسية وإضرابات عمالية وطلابية، وتمَّ تنفيذ تفجيرات وعمليات اختطاف بينها لجنود أمريكيين، قبل أن تنذر قيادة الجيش سليمان ديميريل وتطالبه بـ”التنحّي” في مارس/ آذار 1971، خاصة بعد الانشقاقات الداخلية في حزب العدالة (انسحاب 41 نائبًا برلمانيًّا).
وتعرضت التجربة الحزبية التركية لاهتزازات ومخاطر عديدة، ففي 19 مارس/ آذار 1971 أصبح نهات إريم رئيسًا للحكومة التركية، وسط ترحيب من رئيس حزب الشعب الجمهوري عصمت إينونو، ورفض من الأمين العام للحزب بولنت أجاويد.
وبسبب موجة العنف المسلح لاحقًا، تمَّ إعلان الأحكام العرفية، وتولى رئاسة الحكومة فريت ميلين في أبريل/ نيسان 1972، ثم نعيم تالو، وتتابعت على رئاسة الحكومة عدة أسماء حتى عام 1980 نتيجة فشل الحزبَين الرئيسيَّين في البلاد (الشعب الجمهوري والعدالة) في تشكيل حكومة أغلبية أو التعاون مع حكومات ائتلافية.
هذا فضلًا عن حدوث اضطرابات سياسية وأمنية (اغتيال قيادات حزبية، انهيار العملة وارتفاع الأسعار) قبل تدخل الجيش، مجددًا، في سبتمبر/ أيلول 1980 بقيادة رئيس الأركان كنعان إيفرين، حيث تمَّ حلّ البرلمان ووقف نشاط الأحزاب وحلّها ثم إلقاء القبض على قادتها.
قبلها، تمَّ تشكيل حزب السلامة الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان الذي شارك في حكومة ائتلافية بقيادة زعيم حزب الشعب الجمهوري، بولنت أجاويد، بعد الانتخابات البرلمانية عام 1973، إلى أن قدّم أجاويد استقالته في 18 سبتمبر/ أيلول 1974، ليخلفه في رئاسة الحكومة زعيم حزب العدالة سليمان ديميريل (بمشاركة ائتلاف يضم حزبَي السلامة والعمل القومي) حتى انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 1977.
وفى يناير/ كانون الثاني 1978، شكّل بولنت أجاويد وزارة ائتلافية مع الحزب الديمقراطي وحزب الثقة والنواب المستقلين، ونواب من حزب العدالة يؤيّدون العلمانية.
متغيرات سياسية
استمرَّ وقف نشاط الأحزاب السياسية حتى مايو/ أيار 1983، بعدها تأسّس أول حزب سياسي، الديمقراطية القومية، برئاسة تورغت سونالب، وتركيا الكبيرة بزعامة سليمان ديميريل، والوطن الأم بزعامة تورغوت أوزال.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1983 تمَّ إجراء الانتخابات النيابية، وأسفرت عن فوز حزب الوطن الأم وتشكيل أوزال للحكومة حتى عام 1989، حيث تمَّ انتخابه رئيسًا للجمهورية، ما أدّى إلى انقسام حزب الوطن الأم (القومي) إلى جناحَين (ليبرالي علماني بزعامة مسعود يلماز، وإسلامي محافظ)، وبعد انتخابات عام 1991 بادر حزب الطريق القويم، بزعامة سليمان ديميريل، بتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الشعب.
عقب وفاة تورغوت أوزال عام 1993، شكّل حزب الرفاه والطريق القويم الحكومة برئاسة نجم الدين أربكان، لكن في 28 فبراير/ شباط 1997 تم إلزامه بالتوقيع على “قائمة طلبات لحماية النظام العلماني في تركيا” لكن تم حظر حزب الرفاه بعدها بـ 3 أشهر فقط، وسُجن أربكان وتم تسليم السلطة السياسية إلى حزب اليسار الديمقراطي بزعامة بولنت أجاويد (الحاصل على ثالث أعلى الأصوات)، حيث شكّل حكومة ائتلافية مع أحزاب ضعيفة.
في انتخابات عام 1999 فاز حزب اليسار الديمقراطي، وحلَّ في الترتيب اللاحق حزبا الحركة القومية والوطن الأم، وتم تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة بولنت أجاويد، لكن عناصر من حزب الرفاه المنحل أسّست حزب الفضيلة الذي تم تجميده قانونيًّا لأنه يخالف مبادئ العلمانية.
ومن ثم بادرت قيادات الحزب وعناصره بتأسيس حزبَين جديدَين (السعادة المحافظ، والعدالة والتنمية التجديدي) قبل أن يحسم حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، على حساب حكومة اليسار الديمقراطي التي فشلت في مواجهة الأزمات الاقتصادية وتداعيات كارثة الزلزال، ويقود البلاد حتى الآن.
ماذا يحدث؟
مفهوم الانشقاقات الحزبية (خروج فرد أو مجموعة أو فصيل من الحزب ليؤسّس حزبًا جديدًا أو لينضمَّ إلى حزب آخر) لا ينطبق على من يتقدمون باستقالتهم من الأحزاب دون الانضمام إلى حزب آخر (كحالة عبد الله غول)، فهذا لا يعدّ انشقاقًا بل اعتزالًا للعمل السياسي.
بينما الانقسام السياسي يعني التصدع والاستقطاب على المستوى الانتخابي بين الناخبين والأحزاب السياسية، ويترتّب عن هذا النمط من الانقسام ظهور أحزاب سياسية أو حركات اجتماعية، فيما يعني الانقسام الحزبي وجود فصائل وأجنحة داخل الحزب، نتيجة للاختلاف الفكري والأيديولوجي للفصائل الموجودة داخل الحزب ولأسباب اقتسام السلطة، حيث تتباين العلاقة بين التعاون أو الانحلال أو التنافس.
هناك وجهة نظر تتعامل مع الانشقاقات الحزبية باعتبارها أحد وجوه تردي النظام الحزبي، وأن كثرة التنظيمات السياسية تعكس غياب الديمقراطية الحقيقية داخل الأحزاب الأصلية
والانشقاقات الحزبية لا تحدث بشكل فجائي إنما تمرّ بعدة مراحل، أولًا: مرحلة معارضة أفكار أو قيادة الحزب، نتيجة قرارات لا تراعي وجهة نظر المعترضين، ومع تفاقم الأزمة وفشل قيادة الحزب في احتوائه تنتهي بحدوث انقسامات يغلب عليها الصراع.
ثانيًا: مرحلة الصراع، عندما يضم الحزب فصائل متباينة ذات مصالح مختلفة، وجوهر الصراع هو الاستقطاب الكبير بين الأجنحة ذات التطلعات المتباينة التي يصعب التوفيق بينها، ومع غياب قنوات التواصل بين الأجنحة المتصارعة يركّز كل طرف على إزاحة الآخر، فتتسع دائرة الصراع.
ثالثًا: مرحلة اتساع الصراع على مستوى الحزب، وتصبح القيادة طرفًا فيها، ما يدفع الفصيل الأقل تكيُّفًا إلى الانشقاق عن الحزب.
لا تنفصل الانشقاقات الحزبية عن التناقضات الداخلية والبينية التي تزدحم بها شعارات الأحزاب، مع ضعف البنية التنظيمية الداخلية لهذه الأحزاب وهشاشتها، وضبابية آليات صنع القرار الداخلي التنظيمي منه والسياسي، كما غياب الأيديولوجيا الواضحة والأدبيات السياسية، وتماهيها بشكل نفعي مكشوف مع المستجدات، لدرجة يصعب معها فرز هذه الأحزاب تحت أي تصنيف أيديولوجي، فلا هي دينية ولا هي مدنية، مثلما أنها ليست بالمطلق وطنية لجهة النشأة والتأسيس أو المرجعية الفكرية.
أيضًا فوضوية الأدبيات والبرامج السياسية، واقتصارها على حزمة من الوعود الانتخابية الهلامية والمجانية غير القابلة للتنفيذ، التي تعود وتسوّقها لجماهيرها (الافتراضية) في كل مناسبة انتخابية، ولا تجد حرجًا في التملُّص منها فيما بعد.
مزايا وعيوب
تتباين وجهتا نظر في التعامل مع الانشقاقات الحزبية، الأولى ترى أن الانشقاقات الحزبية ظاهرة عالمية صحية ومحمودة، وأنه من الطبيعي وجود خلافات وانقسامات، فالتكوينات السياسية قد تؤدي أحيانًا إلى انشقاقات، وأنه لا مانع من الخلافات حاليًّا في الأحزاب، فمن الوارد أن يكون بين أعضائها تباينات في التوجهات الفكرية والهوية السياسية، فضلًا عن أن الانشقاقات تمثل إعادة ترتيب البيت الداخلي لتجاوز الخلافات والانخراط الحقيقي والفاعل في المشهد السياسي.
ومن ثم هي تثري الحياة السياسية وتزيد ديناميكيتها، وتنشّط الحراك السياسي الديمقراطي، كما تجدد دماء النظام السياسي، وتعزز دوران النخبة السياسية عبر تنمية وتنويع قنوات المشاركة السياسية، بداية من المستوى الحزبي إلى النظام السياسي نفسه في الدول الديمقراطية، عبر توسيع دائرة الكوادر السياسية المؤهَّلة والقادرة على المشاركة الناجزة في إدارة العملية السياسية.
في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى تتعامل مع الانشقاقات (التصدعات) الحزبية باعتبارها أحد وجوه تردي النظام الحزبي، وأن كثرة التنظيمات السياسية تعكس غياب الديمقراطية الحقيقية داخل الأحزاب الأصلية (القديمة)، وانعدام المجال أمام عمل القيادات الطامحة والأفكار الجديدة للتعبير عن نفسها وتفريغ طاقاتها وإظهار كفاءاتها السياسية-الحزبية.
حيث إن منحها الفرصة سيؤدي، وفق مزاعم القيادات المهيمنة، إلى اضطراب وفوضى وعدم الاستقرار، وهي حالة يغذيها المقرّبون من زعماء الأحزاب، كون التغيير سيحدُّ من امتيازاتهم ويهدد مصالحهم المادية والمعنوية، ومن ثم تنشقّ القيادات الداخلية المعارضة عن الكيانات القائمة لتأسيس أحزاب جديدة.
سيناريوهات
تزداد الرهانات على الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) في تركيا بين القوى السياسية والحزبية المتنافسة، ليس فقط على القواعد التصويتية التقليدية الموالية لتحالف الشعب الحاكم، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزبَي الحركة القومية والوحدة الكبرى، وكيانات أخرى كالرفاه من جديد المحافظ، وحزب هدى بار الكردي ذا التوجهات الإسلامية؛ أو تحالف الأمة المعارض الذي يتكون من أطراف الطاولة السداسية وأحزاب أخرى معارضة، والتأييد الضمني من حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد.
وأصبح التنافس بين أطراف الماراثون الانتخابي على كتلة تصويتية جديدة تتجاوز الـ 6 ملايين ناخب (معظمهم من الشباب)، يبحثون عن الطرف القادر على تقديم نفسه بقوة ليس فقط من خلال التعهدات والبرامج السياسية المطروحة، لكن بوحدة الموقف المعزز للتماسك السياسي.
بدورها، ستعيد الكتل التصويتية المترددة النظر في الانشقاقات الحزبية التي حدثت خلال السنوات الماضية، للحكم على تفاعلات المشهد، وهل أفرز معارضة سياسية قوية مدعومة بأحزاب جديدة قوية تعزز تحالفاتها أحزاب المعارضة القائمة، وهل البرامج السياسية المطروحة من هذا المعسكر قابلة للتطبيق أم أن التفاعلات أفرزت معارضة هامشية (شكلية) لا تحظى بشعبية كبيرة، نتيجة الخلافات وعدم وضوح البرامج السياسية المعلنة لخوض الانتخابات، وعدم القدرة على الوفاء بالتعهدات، فتتواصل هيمنة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) حتى إشعار آخر.
تتعدد السيناريوهات التي تواجه الأحزاب التركية، حيث استمرار تصدُّر حزب العدالة والتنمية الحاكم للمشهد، وبالتالي مفاصل الدولة وتوجهاتها الداخلية والخارجية؛ عدم نجاح الحزب في حسم الأغلبية التي تجعله يشكّل الحكومة منفردًا، واللجوء إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع حزبَي الحركة القومية والوحدة الكبرى؛ نجاح المعارضة -أحزابًا وتكتلات وتحالفات- في تحقيق نتيجة مرضية، تسمح -على الأقل- بالشراكة مع الحزب الحاكم في صناعة القرار، لا سيما التنسيق المشترك في الملفات الخلافية -داخليًّا وخارجيًّا-، أو أن تحقق المعارضة نتيجة مفاجئة في الانتخابات العامة -التشريعية والرئاسية- تمنحها فرصة تحقيق البرنامج السياسي المعلن، بغضّ النظر عن غياب الآليات الداعمة لهذه النتيجة حتى الآن.