ظل تحالف “العمل والحرية” بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي، محل اهتمام معظم المراقبين قبل الانتخابات التركية، مع مبالغة البعض في تعظيم دوره وأنه قد يقلب الموازين في الجبهة المضادة لأردوغان، خاصة أن الأكراد لم يطرحوا مرشحًا لرئاسة الجمهورية.
وادعت استطلاعات رأي موجهة أن حزب الشعوب الديمقراطي (وريث حزبي: السلام والديمقراطية، والمجتمعات الديمقراطية الكردي) سيحقق نحو 12% من إجمالي أصوات الناخبين (أكثر من 64 مليون ناخب تركي).
وزعم محللون سياسيون أن اصطفاف حزب الشعوب الديمقراطي مع تحالف الأمة المعارض بقيادة كمال كليجدار أوغلو، يعني أن الرئيس رجب طيب أردوغان، سيلقى هزيمة ساحقة في الانتخابات، لكن جاءت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في صالح أردوغان.
وحصل أردوغان على 26 مليونًا و859 ألفًا و313 صوتًا (نسبة 49.51% من الأصوات) مقابل 24 مليونًا و430 ألفًا و618 صوتًا (نسبة 44.88%) لزعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، بينما حصل المرشح القومي سنان أوغان على نسبة 5.17% من الأصوات.
برلمانيًا، حقق “تحالف الشعب” برئاسة أردوغان، 321 مقعدًا برلمانيًا (من إجمالي 600 مقعد في الجمعية الوطنية الكبرى) مقابل 213 مقعدًا لتحالف “الأمة” المعارض بزعامة كمال كليجدار أوغلو.
والمفاجأة، أن تحالف “العمل والحرية” الكردي لم يحقق أكثر من 66 مقعدًا، عقب حصوله على نسبة 10.52% فقط، من أصوات الناخبين على مستوى 81 ولاية تركية، معظمهم ذهب لحزب الشعوب الديمقراطي (62 مقعدًا).
خريطة الكيانات الكردية
خاض حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) الانتخابات البرلمانية، تحت مظلة “اليسار الأخضر” وتحالف العمل والحرية (يضم إلى جانب الشعوب الديمقراطي، واليسار الأخضر: العمال التركي والعمل والحركة العمالية والحرية المجتمعية واتحاد البرلمان الاشتراكي).
ولجأ حزب الشعوب الديمقراطي إلى مظلة “اليسار الأخضر” ككيان احتياطي، خوفًا من الغلق القانوني لحزب الشعوب الديمقراطي، بسبب اتهامه بالتقاطع مع حزب العمال الكردستاني وتوجهاته المثيرة للجدل.
تتعدد الأحزاب الكردية نتيجة تعدد القوميات والعشائرية وتواصل الخلافات وتواضع الخبرة السياسية
ويعد حزب الشعوب الديمقراطي أكبر كيان سياسي كردي، منذ تأسيسه عام 2012، واستيعابه لأحزاب وكيانات عدة (سياسية يسارية وقومية كردية)، لكنه يعامل باعتباره ذراع سياسية لحزب العمال الكردستاني (المحظور) بتوجهاته الانفصالية، وفق الاتهامات التي تطارده.
وكانت المشاركة الأولى لحزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات المحليات عام 2014، ممثلًا للأكراد (جنبًا إلى جنب مع الحزب الديمقراطي التقدمي) وحقق الحزبان نسبة 6.2% من إجمالي الأصوات التي شاركت في الانتخابات.
وحصل حزب الشعوب الديمقراطي خلال الانتخابات البرلمانية عام 2018 على نسبة 11.7% من الأصوات، جعلته ثالث كتلة برلمانية، مستفيدًا من شريحة كبيرة من الناخبين الأكراد (يشكلون أقل من 20% من إجمالي الناخبين الأتراك).
وتعززت مكانة حزب الشعوب الديمقراطي، منذ أن انضم لصفوفه نواب حزب السلام والديمقراطية (حاضنة حزب المجتمع الديمقراطي المحظور) والشعوب الديمقراطي، المكون الأهم في تحالف “العمل والحرية” منذ تأسيسه (25 أغسطس/آب 2022).
ومنذ التحالف السياسي للأكراد مع اليسار التركي، انقسم التحالف الكردي (حزب الشعوب الديمقراطي وحزب السلام والديمقراطية) إلى حزب الأقاليم الديمقراطي (يخوض انتخابات البلديات فقط) وحزب الشعوب الديمقراطي، الذي ينافس على مستوى الولايات التركية!
وتتعدد الأحزاب الكردية نتيجة تعدد القوميات والعشائرية وتواصل الخلافات وتواضع الخبرة السياسية، ومنذ عام 1965 ظهر للمشهد العام الحزب الديمقراطي الكردستاني (بدأ إقطاعي وانتهى يساريًا) وحزب عمال كردستان التركية (تعرض لانشقاقات متلاحقة).
وعرفت الساحة التركية، الحزب الاشتراكي الكردستاني، لكن مع تعدد الأحزاب، ارتبط الملف الكردي، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بالعنف المسلح أكثر من العمل السياسي، نتيجة نشاط حزب العمال الكردستاني (أكبر كيان كردي مسلح).
وتأسس حزب “العمال الكردستاني” بين عامي 1978 و1979 كإطار سياسي حركي لمنظمة الشباب الثوري بقيادة عبد الله أوجلان، وتعتمد إستراتيجية الحزب على العنف، من خلال نشاطه في المناطق الحدودية العراقية السورية مع تركيا.
العدالة والتنمية.. والأكراد
أسهمت أحزاب الحركة الإسلامية (بزعامة نجم الدين أربكان) منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي (السلامة والرفاه والفضيلة) بملف الأكراد، وبعدما كان الحديث خافتًا عن الحقوق القومية، اهتم حزب العدالة والتنمية، منذ تأسيسه عام 2001، بتعزيز الملف.
كان ذلك التوجه جزءًا من تعهدات الحزب الحاكم، عبر تعزيز المصالحة الداخلية التي تشمل كل القوميات (40 مجموعة عرقية وسياسية متنوعة، ظلت لعقود تطالب بحقوقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ تأسيس الجمهورية).
ولمواجهة تلك المظلوميات، بادر حزب العدالة والتنمية بعد دخوله البرلمان، بإقرار تشريعات تستفيد منها كل مكونات المجتمع التركي وقومياته وإثنياته وتياراته الفكرية والسياسية ومذاهبه الدينية وطوائفه، بمشاركة أكثر من 80 نائبًا كرديًا، كانوا ضمن الهيئة البرلمانية للحزب الحاكم.
حاول أردوغان، قبل 12 عامًا، التقارب مع حزب العمال الكردستاني، بوساطة الرئيس العراقي، آنذاك، جلال طالباني
ومنذ زيارته الشهيرة لـ”ديار بكر” عام 2005، وتنديده بالسياسات الرسمية السابقة ضد الأكراد، وتعهداته بـ”فتح صفحة جديدة”، لم تتوقف جهود أردوغان التي تستهدف علاج الأزمة الكردية، كـ”جزء من عملية التحوُّل الديمقراطي والتعامل معها كقضية قومية لا سياسية”.
وقد حدث تطور مهم تبناه حزب العدالة والتنمية عام 2009، تمثل في مبادرة “الانفتاح الكردي” عبر التفاوض مع عبد الله أوجلان (والجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني)، لكن المبادرة أُجهضت بسبب اتهامات المعارضة للحزب الحاكم بمد الجسور مع “انفصاليين”!
وحاول أردوغان، قبل 12 عامًا، التقارب مع حزب العمال الكردستاني، بوساطة الرئيس العراقي، آنذاك، جلال طالباني، ورغم أن اللقاءات (استضافتها أسلو، عاصمة النرويج) كانت كفيلة بحسم الملف، فإن الأزمة عادت لنقطة الصفر، لأسباب عدة يتصدرها الملف السوري.
لكن حزب الشعوب الديمقراطي الذي ينحدر معظم ناخبيه من الجنوب الشرقي الكردي، تخلى عن دبلوماسيته السياسية منذ الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2015، عبر خوض المعركة بمرشحيه، مباشرة (ممثلًا للأكراد) وليس بمرشحين مستقلين كما كان يفعل في السابق.
وتعرض حزب الشعوب، حينها، للخداع نفسه الذي تعرض له كمال كليجدار أوغلو (مؤخرًا) من شركات استطلاعات الرأي، التي راحت تضخم، آنذاك، في نسبة الأصوات التي سيحصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي، وأن تمثيله السياسي سيكون أكبر.
من قطع الجسور؟
ورغم أن حزب العدالة والتنمية مد يده لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان (المسجون منذ 14 فبراير/شباط عام 1999) وأقرّ قانونًا جديدًا يجيز إجراء مباحثات سلام رسمية مع الحزب، فإن أوجلان كان يصر على الطريق الذي اختاره منذ البداية!
وتشير مصادر إلى أن أوجلان كان يعتمد على التصعيد السياسي الذي يصل حد الصدام بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العدالة التنمية، لإفشال التقارب السياسي، حتى يعود حزب العمال الكردستاني، بنهجه المعروف، لواجهة المشهد، ممثلًا رئيسيًا للأكراد.
لم يتخل أردوغان وحزب العدالة والتنمية عن النهج التكتيكي الإستراتيجي، الذي يستهدف إيجاد حل مناسب لقضية أكراد تركيا، حتى وهو يواجه الإرهاب، داخل الحدود، وخارجها
وتسببت عمليات إرهابية دموية قبل انتخابات عام 2015، في تركيا، في تجميد الحوار المفتوح مع حزب العمال الكردستاني (وحزب الشعوب الديمقراطي) وتشكل تحالف جديد، في الداخل التركي، يعتمد خلاله حزب العدالة والتنمية الحاكم على حزب الحركة القومية.
ولم يتخل أردوغان وحزب العدالة والتنمية عن النهج التكتيكي الإستراتيجي، الذي يستهدف إيجاد حل مناسب لقضية أكراد تركيا، حتى وهو يواجه الإرهاب، داخل الحدود، وخارجها (عمليات تعقب مقاتلي حزب العمال الكردستاني، شمالي العراق وسوريا).
وتعدد عمليات المجابهة للنشاط الإرهابي القادم من الشمال السوري (عملية درع الفرات في أغسطس/آب 2016، عملية غصن الزيتون في يناير/كانون الثاني 2018، وعملية نبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019) فيما تكفلت عمليات “المخلب” بمواجهة الإرهاب القادم من شمال العراق.
ولتأمين الحدود التركية، لجأ أردوغان إلى توسيع نطاق مواجهة حزب العمال الكردستاني (وحليفه في سوريا، الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وجناحه المسلح، وحدات حماية الشعب الكردية) عبر السيطرة العسكرية على منطقة عفرين، والمساحة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين.
وينتشر الأكراد في المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا والعراق وسوريا وإيران وأرمينيا، ويتراوح عددهم ما بين 25 و35 مليونًا، وهم رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، لكن لم تكن لهم أبدًا دولة مستقلة خلال العصر الحديث.
تأييد كردي لأردوغان
يحظى أردوغان بتأييد نسبي بين الناخبين الأكراد المحافظين، خاصة الأغلبية التي تعارض نهج حزب العمال الكردستاني، ولاحقًا، حزب الشعوب الديمقراطي، وانضم الحزب الكردي “القضية الحرة” (هُدى بار) لتحالف “الشعب” بقيادة أردوغان.
لكن الخطوة التي أقدم عليها حزب “هُدى بار” ذو الخلفية الإسلامية، دفعت المعارضة لتشويه التقارب الكردي مع أردوغان، من عينة أن الحزب “ارتكب جرائم عنف واغتيالات في تسعينيات القرن الماضي، خلال حزب العمال الكردستاني”.
لكن أردوغان شدد على أن “ما ينسب إلى، هدى بار، غير صحيح، هم لا يقبلون ذلك، ولا علاقة لهم بالمنظمات الإرهابية، بل حزب محلي، ووطني بالكامل. دعمهم لنا، مهم للغاية. الانضمام لتحالفنا لا يتم عبر المساومة، لكن على المبادئ”.
يأتي هذا فيما يعمل حزب أردوغان على توسيع العلاقة مع المكونات السياسية والاجتماعية الكردية الفاعلة، ومد مظلة التنمية الشاملة وخدمات البنية التحتية وإعادة الإعمار لمناطق التمركز الكردي، خاصة ديار بكر وأورفا وماردين وهكاري وسيرت وشرناق وباتمان”.
كليجدار أوغلو والأكراد
بعد عامين من رئاسته لحزب الشعب الجمهوري عام 2010، بادر كمال كليجدار أوغلو بالتقارب مع حزبي الشعوب الديمقراطي الذي تأسس عام 2012، حيث تحول العداء التاريخي من الحزب “الكمالي” للأكراد إلى تنسيق سياسي!
تأكد تنسيق الحزبين في الانتخابات العامة (2018) وتعززت العلاقة في الانتخابات المحلية (البلديات) عام 2019، بسبب “الخصومة المشتركة” لحزب العدالة والتنمية، ثم رد حزب الشعوب الجميل لكليجدار أوغلو، بعدم تقديم مرشح رئاسي في الانتخابات الحاليّة.
وقبل انتخابات الجولة الأولى في انتخابات 2023، واصلت الأحزاب الكردية المتحالفة (العمل والحرية، واليسار الأخضر) مع المعارضة الحشد خلف كليجدار أوغلو، مؤكدين أن “فوزه بالرئاسة، سيحدث فارقًا كبيرًا”، على عكس فوز أردوغان.
تحالف الأمة.. والأكراد
على عكس العلاقة المباشرة مع حزب الشعب الجهوري، لا تبدي مكونات تحالف “الأمة” (الطاولة السداسية) ممثلة في أحزاب: الجيد القومي والسعادة المحافظ والديمقراطية والتقدم والمستقبل والديمقراطي، موقفًا واضحًا تجاه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
ويعرف كليجدار أوغلو أن أحزاب تحالف “الأمة” (لا توجد قواسم مشتركة بينهم وبين حزب الشعوب الديمقراطي، أو تحالف العمل والحرية، باستثناء، خصومة أردوغان وحزب العدالة والتنمية) لكنه يتمسك حزبيًا وشخصيًا بالكتلة التصويتية الكردية.
ووفق البرنامج المشترك للتحالف (مذكرة التفاهم/الاتفاق السياسي) لم تحظ القضية الكردية باهتمام تحالف “الأمة” كما أن الوثيقة السياسية الصادرة عن حزب الشعب الجمهوري (برنامج رؤية لقرن ثاني) تعاملت مع القضية بالأسلوب نفسه.
فقط، ركزت التعهدات بصورة عامة على: الحقوق المطلوب تعزيزها والعدالة في التنمية الشاملة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن هوياتهم العرقية واللغوية ومنع إلغاء الإدارات المحلية والبلدية لأسباب سياسية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
أهداف وطموحات عدة
يبدو زعيم حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو، في موقف لا يحسد عليه، قبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية (28 مايو/أيار الحاليّ) فهو في حاجة إلى أصوات حزب الشعوب الديمقراطي (الكيان الكردي الأكبر) لكنه لم يطلع الأتراك على “الفاتورة الكردية” المطلوبة!
ويواصل كليجدار أوغلو (خلال التجهيز للجولة الثانية من الانتخابات) إطلاق المزيد من الوعود، خاصة فيما يتعلق بقضايا الهوية (الأكراد والعلويين) مع تحفيز حزب الشعوب الديمقراطي، المُعبر عن الحالة السياسية الكردية وإعادة تسويق القضية الكردية.
في المقابل، نتذكر ما قاله نائب الرئيس المشارك لحزب الشعوب، هيسار أوصوي: “نريد أن نلعب اللعبة بحكمة، وعلينا أن نكون حذرين للغاية”، لكن المعارضة الكردية التي تربت على أفكار الاستقلال (الانفصال) ستكون عبئًا على حلفائها وعلى التعايش الوطني المطلوب.
وفيما ترى شريحة من الأكراد، أن نهج أوجلان هو الخيار الوحيد لحسم الأزمة، يحاول حزب العدالة والتنمية استيعاب أطياف كبيرة من الأكراد، رغم قناعة حكومات أردوغان (منذ عام 2004) بأنها ليست المسؤول التاريخي عن الأزمة الكردية!
يبدو هذا من واقع البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، خاصة فيما يتعلق بـ”الديمقراطية والإصلاحات”، حيث تظهر ملامح التغيير والتحول خلال الـ21 عامًا الماضية، وإلزام الحزب لنفسه بجملة تعهدات مرتقبة بعد انتخابات عام 2023.
تشمل جملة التعهدات “إصلاحات تكميلية في جميع المجالات، خاصة في القانون وحقوق الإنسان والحريات والعدالة، بهدف تحقيق مستوى عال من الديمقراطية”، وهو السر في حفاظ الحزب على وجوده في صدارة المشهد، طوال المدة المذكورة!
إذن، لم يغلق، أردوغان، الباب في وجه التقارب مع الأكراد، كمكون شعبي تركي، لكنه (وفق ما تؤكده مصادر لنون بوست) “لن يتسامح مع أي نشاط يهدد الأمن القومي التركي أو دعم خارجي يزعزع الاستقرار”.