حَظي ملف اللاجئين السوريين في تركيا باهتمام كبير خلال الحملات الانتخابية لكل من الأحزاب والمرشحين لانتخابات الرئاسة التركية، لا سيما تهديد المرشح الرئاسي كمال كليشدار أوغلو بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم “فورًا”، بينما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤكد على ضرورة العودة الطوعية، رافضًا طرد اللاجئين السوريين، وسط تصاعد مستمر حتى الجولة الثانية من الانتخابات التي تكللت بفوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة.
طيلة الأسابيع الماضية كان السوريون في تركيا يعيشون في أجواء مشحونة ومتوترة وسط استفزازات مرشح المعارضة، الذي وضع مسألة اللاجئين السوريين عنوانًا وحيدًا لحملته الانتخابية في الجولة الثانية، بعد أن كانت عنوانًا رئيسيًا من جملة عناوين في الجولة الأولى.
الآن وقد رست الانتخابات على أردوغان الذي يملك رصيدًا برلمانيًا مريحًا، فقد تنفّس اللاجئون الصعداء، كونه تعهد بأن تكون العودة كريمة وطوعية ولمن يرغب، وإلى منازل يجري العمل على إعمارها. ورغم تشكيك البعض بـ”طوعية” العودة، بالنظر إلى حالات مسجلة جرى إعادتها قسرًا إلى المناطق التي تديرها تركيا في الشمال السوري، إلا أن وجود مشروع إسكان ضخم مع بنية تحتية جيدة وحالة مقبولة من الاستقرار الأمني في الشمال السوري، يريح طيفًا واسعًا من السوريين ويطمئنهم.
وعاد “مشروع المليون“، الذي كشف عنه أردوغان قبل عام تمامًا من الآن، اي في أيار/مايو 2022، إلى الواجهة، بعد تصريحات وتحركات للمسؤولين الأتراك، على وقع الانتخابات التي طويت صفحتها للتو، ووسط حديث عن اتفاقية لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، يكون ملف اللاجئين أحد محاورها.. فما هي تفاصيل المشروع، وهل الشمال السوري مستعد لاستقبال هذه الأعداد؟
مشروع تركي قطري لعودة مليون لاجئ سوري: التفاصيل
قبل 10أيام، أعلن الرئيس التركي أردوغان، عن بناء المزيد من الوحدات السكنية في الشمال السوري، بهدف إعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم بشكل طوعي، إذ أنشأت المؤسسات التركية والمنظمات المدنية منازل من الطوب شمالي سوريا، والعمل جارٍ على بناء منازل جديدة تستوعب نحو مليون سوري، في المشروع يعد نواة لتأسيس بنية تحتية للعودة الطوعية للسوريين إلى تلك المناطق.
قال أردوغان في 9 مايو/أيار الحاليّ خلال خطاب موجه للشعب عقب ترؤسه اجتماع الحكومة في المجمع الرئاسي: “عدد السوريين في تركيا سينخفض إلى مستويات معقولة كلما وفرنا الإمكانات اللازمة للعودة الطوعية، إذ نعمل على إنشاء 200 ألف وحدة سكنية في 13 منطقة على الأراضي السورية بتمويل من المنظمات الإغاثية والدولية”، وأضاف أن دراسات مؤسسات بلاده تظهر أن عدد اللاجئين المستعدين للعودة الطوعية إلى سوريا يفوق المليون لاجئ.
وفي 24 مايو/أيار الحاليّ وضع وزير الداخلية التركي سليمان صويلو حجر الأساس لمشروع الوحدات السكنية في منطقة جرابلس بريف حلب الشرقي، بدعم من صندوق قطر للتنمية، ومن المفترض مباشرة العمل في المشروع الذي سيستقبل العائدين طوعيًا من تركيا على أن ينتهي ببناء 240 ألف مسكن مخصص لمليون شخص خلال السنوات الثلاث القادمة.
ويتوزع المشروع على 9 مناطق مختلفة من الشمال السوري، مثل رأس العين وتل أبيض وجرابلس والباب، فيما تم البدء ببناء 5 آلاف مسكن ضمن المرحلة الأولى من المشروع، وسيتم تسليمها قبيل انتهاء العام الحاليّ، وستقسم الشقق السكنية إلى ثلاث مساحات مختلفة: 60 مترًا مربعًا و80 مترًا مربعًا و100 متر مربع، كما سيحتوي المشروع على منشآت صناعية وتجارية وبنية تحتية من مدارس ومشافٍ ونقاط طبية، ويأتي ذلك بدعم من صندوق قطر للتنمية.
مخاوف اللاجئين من العودة إلى سوريا
رغم كل تلك المشاريع، فإن مخاوف العودة الطوعية التي تسوق لها الحكومة التركية ما زالت ترهق اللاجئين السوريين في تركيا، كونها تكاد تكون قسرية، لا سيما أن مئات الأشخاص الذين يتم ترحيلهم إلى الشمال السوري عبر المعابر الحدودية دون عائلاتهم كونهم مخالفين لقواعد السفر أو أنهم لا يحملون بطاقة الحماية المؤقتة، ما يعني أنهم لم يعودوا بشكل طوعي.
وفي الوقت الذي تستعد فيه تركيا لبناء منازل سكنية للاجئين السوريين في الشمال السوري، تزداد مخاوف اللاجئين، خاصة أنهم أسسوا حياة معيشية مستقرة إلى حد ما بعد سنوات مضت على هجرتهم القسرية من بلادهم نتيجة بطش آلة الأسد الإجرامية.
غادر ياسر الحميد 34 عامًا، مدينته حلب قبل عشرة أعوام نتيجة اشتداد القصف الجوي والمدفعي والمعارك العسكرية بين المعارضة السورية ونظام الأسد، ما اضطره إلى اللجوء في تركيا والإقامة مع عائلته في ولاية غازي عنتاب التركية، ويعمل الرجل في ورشة للخياطة ويحاول تأمين قوت أسرته في ظل مصاريف كبيرة وأجور المتدنية يحصل عليها مقابل عمله، وهي بالكاد تغطي الضرائب وإيجار المنزل، مثل باقي السوريين الذين يعيشون في ظروف اقتصادية صعبة بعد تهاوي الليرة التركية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لا يمكنني العودة إلى مدينتي حلب، بسبب الملاحقات الأمنية والظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها السكان هناك، وفي الوقت ذاته لا أملك منزلًا في الشمال السوري، وفي حال توافر فإن الظروف الأمنية والاقتصادية والمعيشية غير مستقرة والسوريون هناك يعيشون أيامًا مظلمة”.
يوجد تحديات كبيرة تواجه اللاجئين في حال أجبروا على العودة، منها الأمنية التي تتعلق بحياة الناس، والاقتصادية وسبل العيش، وتوافر البنية التحتية من عمل وطبابة وتعليم
وأضاف أنه يخشى أن يجبر على العودة إلى سوريا، فالحياة هناك غير مستقرة ولا يمكن للإنسان أن يحصل على حقوقه في ظل تسلط سلطات الأمر الواقع على الناس وفرضها حياة عسكرية يغيب عنها القانون والقضاء، “لذلك لا يمكنني تأسيس حياة جديدة في الشمال”.
بينما عمار الخطيب، من ريف حلب الشمالي، ويقطن في ولاية مرعش التركية، يرفض العودة إلى الشمال السوري بشكل قطعي بسبب الظروف الاقتصادية والأمنية وسط غياب كلي للخدمات التي لا يحصل عليها سكان المنطقة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “مسألة العودة ترتبط بتوافر فرص المعيشة والاستقرار الاقتصادي والأمني وهذا ليس متوافر حتى الآن في الشمال السوري بحسب تواصلي مع الأقارب هناك، لذلك لا يمكن أن أفكر بعودة جدية الآن في ظل الظروف الراهنة”.
وأكد أنه مضى على لجوئه إلى تركيا نحو 12 عامًا تقريبًا وأسس خلالها حياته، حيث تابع تحصيله العلمي ويعمل في معمل للبلاستيك لإعالة أسرته، بينما في الشمال السوري لا يمكنه حتى الحصول على أدنى احتياجات المعيشة في ظل اكتظاظ السكان وغياب فرص العمل وانخفاض أجور مصادر الدخل المتاحة.
هل الشمال السوري بيئة آمنة لعودة اللاجئين؟
يتابع معظم اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا التطورات في سوريا وهم على قرب كبير، ويتمنون العودة في أي لحظة إلى بلادهم، لكن الظروف الأمنية تمنعهم من ذلك لا سيما الأشخاص الذين سيعودون إلى منازلهم في المدن التي يسيطر عليها النظام، بينما تعد الظروف الاقتصادية والمعيشية مشتركة في مختلف مناطق السيطرة السورية.
ولا يستطيع السوريون العودة إلى بلادهم بحكم عدم الاستقرار، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها النظام التي يتعرض فيها العائدون للملاحقات الأمنية والاعتقالات التعسفية، فضلًا عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وعدم توافر أدنى مقومات الحياة المستقرة، بحسب ما أوضح الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “الحكومة التركية حاولت تغيير سلوك نظام الأسد تجاه العائدين من اللاجئين، والحصول على ضمانات عبر الوساطة الروسية، لكن رغم ذلك فإن النظام لم يغير من السياسة التي انتهجها منذ سنوات”.
مضيفًا “يوجد تحديات كبيرة تواجه اللاجئين في حال أجبروا على العودة، منها الأمنية التي تتعلق بحياة الناس، والاقتصادية وسبل العيش، وتوافر البنية التحتية من عمل وطبابة وتعليم، وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأساسية التي تدفع الناس إلى العودة أنها غير متوافرة في مختلف مناطق السيطرة السورية”.
فضل عبد الغني: العودة مرهونة بوجود استقرار معيشي واقتصادي وأمني وقانوني يحفظ حقوق الإنسان ويحترم الحريات
ويرى الباحث أن المشاريع السكنية التي تنفذها تركيا في الشمال السوري، محاولة لجعلها مناطق جاذبة لمن يبغي الاستقرار، ويجب أن تحول المنطقة إلى بيئة آمنة، وستساهم في ترتيب المنطقة وتركز على توفير سبل الاستقرار المعيشي والاقتصادي وعلى وجه الخصوص لأبناء المنطقة كي يعودوا إلى مناطقهم.
من جهته يرى فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن موضوع العودة الطوعية غير متعلق بإعادة البناء فقط وتأمين المسكن للعائدين، وإنما يجب أن يكون هناك قوانين تراعي حقوق الإنسان وتحفظ له حريته وكرامته.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “العودة مرهونة بوجود استقرار معيشي واقتصادي وأمني وقانوني يحفظ حقوق الإنسان ويحترم الحريات، وهذا الأمر مرتبط بسلطات الأمر الواقع وهي الفصائل التي تتصرف كسلطة عسكرية في ظل غياب السلطة المدنية”، مضيفًا “يجب تفعيل دور الحكومة السورية المؤقتة بانتخابات محلية بشكل جدي وفاعل، وبعد ذلك يمكن توفير القضاء والمحاكم والحلول الاقتصادية للمنطقة، عندها يمكن أن يعود اللاجئ السوري إلى بلاده بشكل طوعي”.
ويعيش في تركيا نحو 3 ملايين و500 ألف لاجئ سوري، في عشرات المدن التركية، بعدما تم نقلهم قبل سنوات من المخيمات إلى المدن، حين حصل 200 ألف شخص منهم على الجنسية التركية، بينما عاد نحو 500 ألف سوري إلى مناطق شمالي غربي سوريا خلال السنوات الماضية.
ولا يبدو أن اللاجئين السوريين قادرون على العودة إلى بلادهم حتى في المناطق التي تعمل تركيا على جعلها مناطق آمنة بسبب غياب الاستقرار الأمني والقصف المتكرر، وغياب الدور القضائي وانتشار الفساد في مختلف مؤسسات المنطقة، فضلًا عن انتشار البطالة وازدياد نسبة الفقر.