أثار تعيين محمد شيمشك وزيرًا للخزينة والمالية في الحكومة الجديدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تفاؤلًا حذرًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، على صعيد تراجع سعر الصرف والتضخم المرتفع وارتفاع أسعار إيجارات المنازل بشكل خاص.
من جانب آخر، كان اسم شيمشك باعثًا إيجابيًّا على السوق، لا سيما دوليًّا، فهو يتمتع بسمعة عالمية وخبرة في إدارة الملف الاقتصادي الذي تولاه طيلة 9 أعوام تقريبًا بين عامَي 2009 و2018، وهو يولي أهمية لتطبيق المعايير العالمية كمبادئ رئيسية لتحقيق الاستقرار المالي ومكافحة التضخم.
ومن الجدير بالأهمية أن شيمشك أكّد على ذلك بشكل واضح في أول رسالة له، خلال تسلّمه المنصب من سلفه نور الدين نباتي، الأحد 4 يونيو/ حزيران، حيث قال إن “تركيا لم يعد أمامها خيار سوى العودة إلى أرضية عقلانية”.
مضيفًا أن “الشفافية والاتساق والقدرة على التنبؤ والامتثال للمعايير الدولية ستكون مبادئنا الأساسية في تحقيق هدف زيادة الرفاه الاجتماعي”، مشيرًا إلى أن هذا الهدف هو الرئيسي للحكومة، كما لفت إلى أن نموذج اقتصاد تركي قائمًا على القواعد ويمكن التنبؤ بتحركاته هو الأساس لتحقيق الازدهار المنشود.
هذه الأطر الرئيسية الثلاثة التي عدها شيمشك بنية تحتية لنموذجه الاقتصادي الجديد، توحي بأن السياسة الحالية ستتغير لعدة أسباب، بما في ذلك خفض الفائدة.
صراع خفض الفائدة
من المعلوم أن الرئيس أردوغان شدد طيلة السنوات القليلة الماضية على ضرورة خفض معدل الفائدة لتصل الآن إلى 8.5%، وخلال حملته الانتخابية أعاد التأكيد على هذه السياسة، ما أعطى مؤشرًا لصعوبة التراجع عنها على المدى القريب، لكن في الوقت ذاته حمل تعيين شيمشك وزيرًا للمالية مؤشرات معاكسة.
منذ الحملة الانتخابية الشهر الماضي، أعلن أردوغان أكثر من مرة أنه يجري مناقشات مع شيمشك، وأعطى احتمالية لدور ما قد يتولاه الوزير السابق على الصعيد الاستشاري، وبعد فوز أردوغان في الجولة الثانية أواخر مايو/ أيار المنصرم، تسارعت وتيرة لقاءاته مع شيمشك، وسط حديث حول بعض الخلافات بين الرجلَين بشأن استقلال الإدارة الاقتصادية وما شابه.
من المتوقع أن يغير شيمشك من سياسة خفض الفائدة، وإن كان بمستوى يسير، ما يضمن تحقيق انعكاس لذلك على قيمة الليرة التركية وضبط أسعار الصرف.
ونظرًا إلى ذلك، فمن المرجّح أن يكون أردوغان منح شيمشك مساحة واسعة لإدارة الملف الاقتصادي بشكل مستقل، وما يعضّد ذلك هو شخصية شيمشك الفريدة دون غيرها التي تولت حقيبة المالية آخر 3 أعوام، فقبوله بهذا المنصب يعني أن سياسته باتت مقبولة كذلك لأردوغان، وأن عنصر التغيير سيخيّم في المرحلة القادمة على مجمل سياسات الاقتصاد القائمة.
في الآونة الأخيرة، شهدت البلاد تراجعًا نسبيًّا بمعدل التضخم، إذ انخفض إلى ما دون 40% في مايو/ أيار 2023، حيث استقر عند 39.59% لأول مرة منذ 17 شهرًا، لكن سعر الصرف لا يزال يستنزف قيمة الليرة التركية، إلى جانب تراجع احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي، وهذا الوضع الذي دفع ربما شيمشك للقول إنه لم يعد هناك حل سوى العودة إلى “أرضية عقلانية”.
على أساس ذلك، من المتوقع أن يغير شيمشك من سياسة خفض الفائدة، وإن كان بمستوى يسير، ما يضمن تحقيق انعكاس لذلك على قيمة الليرة التركية وضبط أسعار الصرف، لكن تبقى المراهنة على إمكانية إحداث نقلة راديكالية في هذه السياسة، لا سيما مع الانخفاض المستمر في الأعوام الثلاثة الماضية.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن شيمشك لم يبعث برسالة مباشرة حول قضية رفع الفائدة، لكن تأكيده على اتباع القواعد والمعايير الدولية يوحي بذلك.
مكافحة التضخم
يرى شيمشك أنّ الهدف الرئيسي لإدارته سيكون تحقيق زيادة في الرفاه الاجتماعي، و”خفض التضخم لخانة الآحاد من أجل زيادة القدرة على التنبؤ في المجالات جميعها، وتسريع التحول الهيكلي الذي سيقلل عجز الحساب الجاري”، إلى جانب “تحقيق استقرار للأسعار لتحقيق نمو مرتفع ومستدام”.
ورغم القراءات التي تعتبر أن خفض الفائدة يزيد معدل التضخم، إلا أنه حقق تراجعًا متواصلًا منذ مارس/ آذار، لكن خفض الفائدة كان وراء تراجع سعر صرف الليرة في ظل تراجع احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي، إضافة إلى وجود قلق لدى المستثمر الدولي يتعلق بعدة نقاط، مثل ضرورة وجود شفافية واستقلالية للبنك المركزي.
بمعنى آخر، من المرجّح ألّا يندفع شيمشك إلى رفع معدل الفائدة بطريقة راديكالية لتحقيق الهدف الرئيسي الذي قال إنه زيادة الرفاه الاجتماعي، حيث يدخل ضمن هذا الرفاه معدل البطالة الذي قد يزيد في حال رفع سعر الفائدة بشكل مفاجئ وانخفاض الإنتاج.
ولتحقيق هذه الموازنة بين زيادة الرفاه ومكافحة التضخم وضبط سعر الصرف، تنتظر شيمشك بالتأكيد مهام صعبة، إذ إن الوضع الاقتصادي الآن مختلف تمامًا عن الذي تركه في عام 2018، وهو كشخصية تعتمد على القواعد والأسُس المنطقية، لم يَعِدْ بنقلة نوعية في غضون شهور، بل تحدث عن “مدى متوسط”.
يقيم في إسطنبول نحو 20% من سكان تركيا، وهي العصب الاقتصادي للبلد، وكانت الأكثر تجسيدًا وانعكاسًا لآثار التضخم وارتفاع الإيجارات وما شابه، ولذلك فإن إصلاحًا جذريًّا ينعكس بالإيجاب على أرض الواقع سيكون مهمًّا للرئيس التركي وحكومته.
في هذا الإطار، من المتوقع أن يركّز شيمشك على تشكيل فريق اقتصادي قوي، وستكون المرحلة الأولى من مهام شيمشك هي الانعكاف على اختيار الأسماء المناسبة لأرفع المناصب الحسّاسة، مثل البنك المركزي وهو أهمها.
سيركّز شيمشك كذلك على ضمان استمرارية الاستقلال له ولإدارته للملف الاقتصادي، وسيزيد ذلك كلما تمكّن من تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، وكلما حقق ذلك سيكون من مصلحة الحكومة والرئيس أردوغان مواصلة ذلك، لا سيما على المدى القريب مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية (البلديات) عام 2024.
فرغم فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وحصول تحالف الجمهور على أكثرية مقاعد البرلمان، إلا أنه خسر مدينتَي إسطنبول وأنقرة لصالح المعارضة ولو بفارق طفيف، وهناك اعتقاد قوي بأن الوضع الاقتصادي لا سيما بإسطنبول هو وراء هذه الخسارة.
يقيم في إسطنبول نحو 20% من سكان تركيا، وهي العصب الاقتصادي للبلد، وكانت الأكثر تجسيدًا وانعكاسًا لآثار التضخم وارتفاع الإيجارات وما شابه، ولذلك فإن إصلاحًا جذريًّا ينعكس بالإيجاب على أرض الواقع سيكون مهمًّا للرئيس التركي وحكومته، ومن جانب آخر سيكون مهمًّا لحزب العدالة والتنمية لاسترجاع بلديتَي إسطنبول وأنقرة.
بالتأكيد تنتظر شيمشك مهام صعبة، لكن عدم حصول اصطدام مع الرئاسة التركية سيكون الرهان الأكبر، وهذا يتعلق بمدى نجاحه في إدارة فريقه لا سيما البنك المركزي من جهة، والإسراع في تحقيق أهداف ملموسة تكون ورقة قوية بيده من جهة أخرى.