يختتم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارته للمملكة العربية السعودية التي استغرقت 3 أيام (6-8 يونيو/حزيران 2023) التقى خلالها وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وناقش مع كبار مسؤولي الخليج سبل تعزيز التعاون المشترك.
الزيارة تأتي عقب زيارة مماثلة لمستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى العاصمة السعودية في 7 مايو/أيار المنصرم، كما أنها الأولى لوزير الخارجية الأمريكية منذ أن قررت الرياض وطهران استئناف علاقاتهما الدبلوماسية في مارس/آذار الماضي، بعد قطيعة استمرت سبع سنوات.
وعقد بلينكن خلال الزيارة اجتماعًا مع نظرائه في دول مجلس التعاون في الـ7 من الشهر الحاليّ أكد خلاله على أن بلاده لا تزال ملتزمة تجاه شركائها بمنطقة الخليج، وذلك بعدما شهدته العلاقات الأمريكية الخليجية من توتر خلال الآونة الأخيرة بسبب تباين وجهات النظر إزاء بعض الملفات وانسحاب واشنطن من ضماناتها السابقة بحماية أمن الخليج.
هذا بجانب اجتماع آخر من المقرر عقده اليوم مع أعضاء التحالف الدولي لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لمواجهة تهديده المستمر، وإعادة التأكيد على الالتزام بضمان هزيمتها الدائمة.
زيارة استثنائية
لأول مرة يزور السعودية مسؤول أمريكي بارز بحجم وزير الخارجية لمدة ثلاثة أيام، الأمر الذي يعكس أهمية تلك الزيارة وحساسية الملفات التي يحملها بلينكن في حقيبته، كما تثير العديد من التساؤلات عن الأهداف الأمريكية الملحة من وراء هذه الجولة ورهانات واشنطن بشأنها في وقت تشهد فيه المنطقة سيولة سياسية جراء إعادة تشكيل خرطة التحالفات الإقليمية والدولية.
أجواء ملبدة بغيوم التوتر تخيم على الزيارة وتفرض عليها طقوسًا مختلفة عن غيرها من الجولات المكوكية التي يقوم بها مسؤولو البيت الأبيض للمنطقة، فهي تأتي في وقت تهرول فيه المملكة لكسر جبال الجليد مع خصومها التقليديين، البداية كانت مع نظام بشار الأسد الذي استطاع التعويم عربيًا وإقليميًا بفضل الجسر السعودي المنصوب مؤخرًا، الذي سمح للأسد نفسه أن يكون على رأس وفد بلاده في القمة العربية التي عقدت في السعودية الشهر الماضي.
هذا بخلاف الانفراجة الكبيرة مع طهران التي فتحت سفارتها في المملكة قبل ساعات قليلة من وصول طائرة بلينكن إلى مطار جدة مساء السادس من الشهر الحاليّ، تلك الانفراجة التي تمت تحت رعاية ومباركة الخصم الاقتصادي اللدود للولايات المتحدة، التنين الصيني، الذي نجح في تعزيز نفوذه في منطقة الخليج والشرق الأوسط بصفة عامة، مستغلًا الانسحاب الأمريكي خلال السنوات الماضية.
النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة كان أحد المنغصات التي أثارت حفيظة الأمريكان، لا سيما الوساطة التي قامت بها بكين لتقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، بما ينسف الجهود التي بذلتها واشنطن خلال السنوات الماضية لتوسيع الهوة بين الخصمين
وفي سياق التغريد السعودي بعيدًا عن السرب الأمريكي، استقبل ولي العهد السعودي، الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أحد خصوم واشنطن العُتاد، حيث استعرضا “العلاقات الثنائية بين البلدين الصديقين وآفاق التعاون وفرص تعزيزه في مختلف المجالات”، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء السعودية (واس).
وقبل زيارة بلينكن بيومين قرر تحالف “أوبك بلس” النفطي خلال اجتماعه الأخير بمقر منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في النمسا في 4 يونيو/حزيران الحاليّ خفض الإنتاج بـ3.66 ملايين برميل يوميًا لضمان استقرار سوق النفط، فيما قررت السعودية خفضًا طوعيًا إضافيًا في إنتاجها من النفط مقداره مليون برميل يوميا ابتداءً من يوليو/تموز المقبل، في خطوة تزيد أزمة الطاقة الحاليّة تعقيدًا وتثير حفيظة الولايات المتحدة ودول أوروبا التي تعاني من نقص واضح في إمدادات الطاقة وأسعارها المرتفعة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية فبراير/شباط 2022.
?#صور | بعد إغلاقها لأكثر من 7 سنوات..
إعادة افتتاح #القنصلية_الإيرانية في #جدة #عكاظ #إيران #السعودية #ان_تكون_اولا @maz2maz @KSAMOFAhttps://t.co/Ao2LmFmDup pic.twitter.com/dNckTrfKCD— عكاظ (@OKAZ_online) June 7, 2023
حقيبة مثقلة بالملفات
يشير الخبراء إلى أن الهدف الأبرز من وراء تلك الزيارة إعادة التفاهم مع الرياض بشأن الطاقة وأسعار النفط، خاصة بعد قرار أوبك بلس الصادم، الأحد الماضي، الذي لا يتناسب مع طموحات الولايات المتحدة ولا حلفائها في أوروبا، وهو ما ذهب إليه أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود، علي العنزي، في تصريحات لـ”مونت كارلو” الدولية.
وخلال الأشهر الـ15 الماضية جاءت القرارات السعودية فيما يتعلق بسوق الطاقة وحجم الإنتاج مغايرة تمامًا للرغبة الأمريكية رغم الضغوط التي مارستها على الرياض دون استجابة، وصل الأمر إلى إقدام الرئيس جو بايدن على زيارة المملكة ولقاء ولي العهد الذي عارض من قبل مهاتفته، لكنها المحاولات التي باءت بالفشل في ظل الإصرار السعودي على تخفيض الإنتاج، مدفوعًا بحزمة من الأهداف والمبررات التي قادته إلى هذا الموقف غير المعتاد.
كما أن النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة كان أحد المنغصات التي أثارت حفيظة الأمريكان، لا سيما الوساطة التي قامت بها بكين لتقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، بما ينسف الجهود التي بذلتها واشنطن خلال السنوات الماضية لتوسيع الهوة بين الخصمين بما يحقق لها حزمة من المكاسب السياسية والاقتصادية واللوجستية وبما يخدم أهداف وأجندات الحليف الإسرائيلي.
وعليه فإن مواجهة هذا النفوذ المتنامي أحد أبرز الملفات التي طرحت على طاولة النقاش مع الجانب السعودي، خاصة أن الزيارة تتزامن مع المباحثات التي تجريها المملكة للانضمام إلى تحالف “بريكس” الاقتصادي الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، ويسعى لمواجهة القطبية الاقتصادية الأمريكية.
تشير التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين أن اللقاء الذي جمع بين ابن سلمان وبلينكن، تميز بالمصارحة والمكاشفة
وتحاول الولايات المتحدة الارتكان إلى التفاهم المشترك مع السعودية في الملف السوداني لتخفيف حدة التوتر بينهما، حيث يستقر في يقين الأمريكان رغبة السعوديين الملحة في تعزيز حضورهم الإقليمي عبر بوابة السودان، وهو ما لا تعارضه واشنطن، بل تدعمه بقوة كأحد الأوراق الرابحة في مسار عودة الدفء للعلاقات الأمريكية السعودية، ومن ثم فإن بحث ومناقشة الجهود الدبلوماسية السعودية المبذولة لاحتواء تلك الأزمة كان على رأس الملفات التي تمت مناقشتها.
كما يعد الملف الاقتصادي وتعزيز الشراكة بين البلدين أحد أهم القضايا الحيوية التي تحرص واشنطن على الإبقاء عليها في مساراتها الدافئة، فالبيئة الاستثمارية الجيدة والفرص الواعدة بها وأرقام النمو الاقتصادي السعودي الذي تجاوز 8.7% خلال عام 2022 أسالت لعاب الأمريكان الراغبين في الاستفادة منها في تعميق مكاسبهم الاقتصادية، حيث حققت أمريكا عام 2021، فائضًا في تجارة السلع والخدمات مع السعودية بقيمة6.4 مليار دولار، كما خلقت الاستثمارات المتبادلة بين البلدين أكثر من 165 ألف وظيفة أمريكية خلال السنوات الأخيرة.
ومؤخرًا نجح البلدان في إبرام بعض الصفقات الاستثمارية الكبيرة منها استثمارات بقيمة 3.5 مليار دولار أعلنت عنها الشركات الأمريكية في السوق السعودي، هذا بجانب الصفقة الهائلة التي أبرمتها شركة بوينغ للطائرات مع المملكة وتقدر بنحو37 مليار دولار، ما سيخلق آلاف الفرص المستقبلية عبر أكثر من 300 مورد لشركة بوينغ في 38 ولاية.
ورغم هذا الزخم الذي يخيم على جدول أعمال الزيارة، فإن البعض يرى أن التطبيع السعودي الإسرائيلي هو الملف الأبرز الذي تسعى إليه واشنطن، حيث تسابق إدارة بايدن الزمن لإبرام هذا الإنجاز الذي قد يضيف لها شعبيًا ويعوضها بعضًا من الشعبية المتراجعة، وهو ما أوضحه بلينكن عشية الزيارة في خطابه أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) في واشنطن، حين قال: “إن للولايات المتحدة مصلحة أمنية وطنية حقيقية في تعزيز التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية”، مضيفًا “نستطيع وعلينا أن نؤدي دورًا كاملًا للمضي قدمًا في هذه المسألة”، لكنه تدارك “ليس لدي أي أوهام لجهة إمكان القيام بذلك سريعًا أو في شكل سهل”.
? دعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الإثنين إلى تطبيع العلاقات بين #السعودية و #اسرائيل، وذلك عشية زيارة مرتقبة إلى المملكة تحمل رمزية كبرى.
وشدد على أنه سيعمل على هذا الملف خلال زيارته للسعودية بين الثلاثاء والخميس.#فرانس_برس pic.twitter.com/5pj6YV3W5T
— فرانس برس بالعربية (@AFPar) June 5, 2023
هل تنجح رهانات واشنطن؟
تشير التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين أن اللقاء الذي جمع بين ابن سلمان وبلينكن في القصر الملكي واستمر ساعة وأربعين دقيقة على وجه التحديد، تميز بالمصارحة والمكاشفة، وأن وزير الخارجية الأمريكي فتح العديد من الملفات الخلافية مع ولي العهد السعودي على رأسها الملف الحقوقي (الذي من المؤكد لن يكون بتلك الحماسة والتشدد والحزم المسبق، مع توقع أن يكون الأمر ليس إلا توصية أو مناشدة خالية تمامًا من أي تصعيد سواء في اللهجة أو التداعيات).
وأسفر الاجتماع عن بعض نقاط الالتقاء والتوافق التي يمكن الانطلاق منها نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات، مع التأكيد على مواصلة الحوار في مسألة التطبيع مع “إسرائيل”، وهو الملف الذي يعاني من تأرجح في المواقف بسبب الضمانات والشروط التي تفرضها المملكة لإبرام الاتفاق، تلك الشروط التي تحتاج إلى مزيد من الوقت للاتفاق بشأنها.
تراهن إدارة بايدن على سنوات التحالف مع الرياض، واعتماد نظام الحكم بها بشكل شبه كامل على الجانب الأمريكي في ترتيب أوراقه، بجانب طموح ولي العهد في قيادة المملكة خلال المرحلة القادمة الذي لا يمكن أن يكون بمعزل عن المعسكر الأمريكي مهما كان الدعم المقدم من الصين وحلفائها، لكن المرتكزات التي يستند إليها هذا الرهان لم تعد كما كانت في السابق.
ملامح الصفقة: تعزيز النفوذ السعودي في المنطقة وتنحية الملفات الجدلية جانبًا، ودعم ولي العهد وسياساته، والتناغم مع مواقف المملكة الخارجية، نظير عودة العلاقات الدافئة مع الولايات المتحدة والانخراط مجددًا في سرب حلفاء واشنطن في المنطقة
إذ سحبت الولايات المتحدة يدها تدريجيًا من أمن المنطقة، وتركت الساحة شبه فارغة في وقت تتعرض فيه دول الخليج لهزات عنيفة جراء المستجدات الإقليمية والدولية التي فرضت نفسها، هذا الانسحاب كان له مردوده السلبي على العلاقات بين الطرفين، حتى جاءت بكين وبعدها موسكو لملء هذا الفراغ وتقديم البديل الجاهز للخليجيين الذين لم يرفضوا هذا العرض المغري الذي يلبي تطلبات الأمن القومي لكيانهم ويعيدهم لمسار التوازن مرة أخرى.
الجانب السعودي رغم حالة التوتر الحاليّة مع الأمريكان لا يمكنه بأي حال من الأحوال الخروج من تلك العباءة بشكل كامل، فالأمر لا يعدو كونه رسالة تحذير وامتعاض، مستغلًا المستجدات الأخيرة التي عززت من النفوذ السعودي في المنطقة وجعلته مقارعًا قويًا للجانب الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وأحد اللاعبين المؤثرين على الساحة الدولية فيما يتعلق بسوق الطاقة الذي تمثل المملكة أبرز المحركين له صعودًا وهبوطًا.
تعزيز النفوذ السعودي في المنطقة وتنحية الملفات الجدلية جانبًا، ودعم ولي العهد وسياساته، والتناغم مع مواقف المملكة الخارجية، نظير عودة العلاقات الدافئة مع الولايات المتحدة والانخراط مجددًا في سرب حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط.. ربما تفرض تلك المعادلة صفقة سياسية محتملة بين البلدين في ظل التحديات الأخيرة، لكن تبقى رغبة بكين تحديدًا في تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، سواء عبر السعودية أم غيرها من بقية الدول، هو عامل الحسم الأبرز لإنجاح تلك المعادلة أو إفشالها.