ليست الحرب الضرب والطعن فحسب، بل ينشأ على ضفافها من العلاقات والعلوم والمعرفة بالخصم ما يُعَدُّ أكبر من الحرب ذاتها، ومن ثم فنحن حين نتحدث عن تاريخ اتصال المسلمين بالغرب وعما جرى من صدام وحروب نُضْطَّر في ذات الوقت إلى ملاحظة ما نبت على ضفافها من علاقات وما أثمرته من معارف!
لقد اقتضت الحروب أيضًا متابعة التحولات الفكرية والسياسية لدى الخصوم، فقد “حرصت الدولة العثمانية على متابعة الخلافات الدينية والمذهبية في أوروبا عن كثب، وراقبت النزاعات والحروب الداخلية والخارجية والتنافس على العروش فيما بين الدول الغربية نفسها، وسعت لاستغلال ذلك في دبلوماسيتها؛ فقد ظاهرت البروتستانتية على الكاثوليكية، إذ كانت ترى أن إنجلترا البروتستانتية هي المسيحية الحقيقية وليست إسبانيا الكاثوليكية، وأنها الأقرب إلى الإسلام، وبنت علاقاتها الدبلوماسية على هذا الأساس، وفعلت الشيء نفسه مع المصلح الديني “مارتن لوثر” عندما أيدته في حركته الدينية ضد العالم الكاثوليكي، كما ترصدت بعناية النزاعات على العرش في أوروبا، وراقبت علاقات المودة أو العداوة فيما بين الدول المسيحية، وحاولت استخدامها لصالحها، غير أن هذا الأمر كان يجد المقابل بعينه؛ فقد دأب الأوربيون والأمريكيون على استغلال مسألة وراثة العرش في الدولة العثمانية، ودعموا الخلافات الدينية والمذهبية في أراضيها [1].
وما إن دخل “محمد الفاتح” القسطنطينية ونظر في آثارها وعمرانها حتى رغب في معرفة الكثير عنها وعمن بناها وعمن حل بها من الشعوب وتاريخهم، فجمع عددًا من الرهبان وغيرهم من الروم والفرنجة، واستقى منهم ما استطاعوا من معلومات من كتبهم التاريخية والمعارف التي حازوها [2].
ومن خلال الحروب استطاع جغرافي وبحار عظيم مثل “بيري ريس” أن يضع كتابه المهم “كتاب بحرية”، الذي يعد معجمًا محيطًا لأخبار البحر المتوسط وجغرافيته وجغرافية البلاد الواقعة حوله وغير ذلك من المعلومات الدقيقة التي جعلت هذا الكتاب دليلاً للبحرية العثمانية وذروة في علم الخرائط والجغرافيا الإسلامية، لم يكن بيري ريس ليستطيع أن يضع كتابًا كهذا لولا أنه كان قائدًا من قادة الأسطول العثماني ثم قائده العام [3].
ولوجود التهديد الحربي اضطر حاجي خليفة (ويُدعى أيضا كاتب جلبي) أن يكتب كتابه “إرشاد الحيران إلى تاريخ اليونان والرومان والنصارى”، وكتب في مقدمته أن الدافع له هو أن عدد المسيحيين صار كبيرًا، ولم يعودوا يسكنون أرضهم التي سكنوها من قبل فحسب، بل وصلت أساطيلهم إلى البحار الشرقية والغربية وصاروا أسيادًا لعدد من الدول، وهم وإن كانوا لم يستطيعوا تهديد الدولة العثمانية لقوتها [4] إلا أنهم يمثلون خطرًا متفاقمًا؛ ولهذا “فقد كان من الضروري التزود بمزيد من المعرفة والمعلومات، حتى لا تكون الشعوب الإسلامية غير عارفة بجيرانها الذين يناصبونها العداء، وكذلك حتى تكون الشعوب الإسلامية في مقدورها أن تنهض من نومها، وأن تستيقظ من سباتها الذي سمح بالفعل لهؤلاء الملعونين بأن يستولوا على دول معينة من أيدي المسلمين، ومن هنا أحالوا الأراضي الإسلامية إلى مواطن للكفر” [5].
وعلى ضفاف الحروب نبتت مصادر أخرى لمعرفة المسلمين بالغرب، عبر: الأسرى، الجواسيس، وما نشأ من علاقات بين الأطراف في فترات السلم والهدنة.
1. الأسرى
لقد نتج عن الحروب أسرى من الجانبين، فكان هؤلاء بابًا من أبواب المعرفة الواسعة بالغرب، سواء من أولئك الذين أسرهم المسلمون فعاشوا حينًا في الأسر أو ظلوا عبيدًا أو إماءً، أو أولئك الذين أسرهم الروم فقضوا وقتًا لدى الروم ثم عادوا بحصيلة معلومات حسب ما أُتيح لهم.
ولقد تمتع بعض المسلمين أحيانًا بأوضاع خاصة في الأسر، فقد ورد أن مَسلمة بن عبد الملك في إحدى غزواته اشترط على ملك الروم بناء قصر قريب من قصره ينزل به وجهاء الأسرى المسلمين فيكونوا تحت رعاية الملك نفسه، فكان لهم تنزه وتعهد ومنزلة حسنة، وكانت لهم فرصة اطلاع ممتازة على أحوال الروم وعاداتهم [6].
وقد قدَّم بعض هؤلاء الأسرى أحيانًا خدمات لا تقدر بثمن للمسلمين، منهم هذا الأسير الذي أُجبر على التنصر في بلاد الروم فما إن جاء جيش المعتصم في فتح عمورية حتى هرب إليهم ودلَّهم على النقاط الضعيفة في سورها؛ فكان بذلك سببًا مباشرًا في واحد من أعظم الفتوحات [7].
وكان مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وهو من رواة الحديث، وهو ثقة [8]، قد اكتسب علمًا واسعًا بالروم وأحوالهم من وجوده في طرسوس – أهم مدن الثغور في العصر العباسي – ثم من خلال أسره بعد موقعة زبطرة (223هـ) والذي استمر ثماني سنوات حتى خرج (231هـ)، فكان مسلمٌ “ذا محل في الثغور ومعرفة بأهل الروم وأرضها، وله مصنفات في أخبار الروم وملوكهم وذوي المراتب منهم، وبلادهم وطرقها ومسالكها، وأوقات الغزو إليها والغارات عليها، ومن جاورهم من الممالك من برجان والأبر (الجلالقة) والبرغر (البلغار) والصقالبة والخزر وغيرهم” [9]، ونقل عنه ابن خرداذبة تفاصيل إدارية وجغرافية عن بلاد الروم [10].
وفي عصر العثمانيين أسرت النمسا “عثمان أغا” ذا الأصل البلغاري في إحدى المعارك، وظل عثمان في أسره أحد عشر عامًا حصّل فيها علمًا كثيرًا باللغة الألمانية، فأُضيفت إلى حصيلته العربية والبلغارية؛ فاُستفيد منه بعدئذ في أعمال الترجمة لدى السلطان [11].
2. الجواسيس
لا ريب أننا فقدنا الكثير من معلومات أجدادنا عن الغرب، ليس فقط ضمن التراث الذي ضاع أو فُقِد، بل أيضًا لطبيعة بعض هذه المعلومات، فتقارير العيون والجواسيس لا تعيش أكثر من سنين معدودة ولا يتاح الاطلاع عليها إلا في الأروقة الضيقة السرية للسلطة، وهذه التقارير هي في العادة أدق ما يُكتب عن الخصوم.
غير أننا لا نعدم شذرات أفلتت من تاريخ هؤلاء وأوضاعهم، فمن ذلك رواية متأخرة تصف أسيرًا مسلمًا أُهين في قصر إمبراطور الروم فنُقِل ذلك إلى “معاوية” رضي الله عنه، فاحتال معاوية في فك الأسير حتى تم له ذلك، ثم كلَّف تاجرُا فاحتال حتى أنشأ علاقة قوية بمن أهان هذا المسلم من حاشية الإمبراطور، ووضع معه خطة لاختطافه من القسطنطينية حتى دمشق، وقد نجحت العملية وأتى معاوية بالأسير المحرر الذي أُهين ليقتص من الذي أهانه، ثم أعاده إلى حدود دولة الروم [12].
وبعض المؤرخين يرون أن رحلة ابن حوقل، وهي من أكثر ما وصلنا من الرحلات تفصيلاً ودقة، إنما هي تقرير كتبه لصالح العبيديين (الفاطميين)؛ إذ كانوا يرغبون في معرفة الأراضي التي يتطلعون لحكمها [13].
3. علاقات في الهدنة
ونشأت في ظل الحروب علاقات متفاوتة في قوتها بين الجانبين، سواء على مستوى الملوك أو على مستوى الفرسان والعوام، فكم تكرر أن هرب أمير مسلم إلى الروم أو أمير رومي إلى المسلمين، فقد لجأ “ورد الرومي” إلى عضد الدولة البويهي بعد فشل انقلابه العسكري في بيزنطة [14]، وأجار بنو ذي النون – ملوك طليطلة في الأندلس- “ألفونسو السادس” المطارد من قِبل أخيه الملك، واستطاع ألفونسو من ملجئه إدارة انقلاب على أخيه وتولى حكم ليون، ثم كان على يديه سقوط طليلطة نفسها بعد أعوام [15].
وقد بلغت بعض العلاقات من القوة أن عرض فارس فرنجي على صديقه الفارس المسلم “أسامة بن منقذ” أن يرسل معه ابنه لبلاد الفرنج فيعلمه هناك الحكمة والفروسية، وكانوا يمكنونه من الصلاة في المسجد الأقصى، وأنقذوه من فارس ضربه حين رآه يتوجه إلى القبلة، واعتذروا له عن هذه الجلافة بأنه قدم حديثًا من بلاد الفرنجة [16]، كما نشأت علاقات لا يمكن حصرها بين من تعلموا علوم المشرق وعادوا بها إلى الغرب، وبقدر ما أفادوا من الشرق بقدر ما كانوا من مصادر معرفة المشارقة بالغربيين.
——————————————-
[1] محمد إبشيرلي: نظم الدولة العثمانية، ضمن “الدولة العثمانية تاريخ وحضارة” بإشراف: أكمل الدين إحسان أوغلو 1/226.
[2] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص173.
[3] محمد إلهامي ومحمد شعبان: بيري ريس ص107 وما بعدها.
[4] كُتِب هذا الكتاب عام 1655، وقت أن كانت اليد العليا لا تزال للعثمانيين.
[5] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص145.
[6] المقدسي: أحسن التقاسيم ص147، 148.
[7] الطبري: تاريخ الطبري 5/239، 240.
[8] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 13/100.
[9] المسعودي: التنبيه والإشراف ص162.
[10] ابن خرداذبه: المسالك والممالك ص24، 25.
[11] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص92.
[12] النويري: نهاية الأرب 6/187.
[13] د. حسين مؤنس: تاريخ الجغرافيا والجغرافيين ص10. وهو يتابع في هذا رأي المستشرق الهولندي رينهارت دوزي.
[14] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/386، 387.
[15] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/391.
[16] أسامة بن منقذ: الاعتبار ص132، 134.