دُعيت لحوارات تأسيس شبكة للعمل المدني السوري منذ حوالي سنتَين، وكانت هذه المشاورات قد بدأت بمجموعة من الشخصيات الوطنية المعروفة قبل انضمامي بأسابيع.
مرَّ أكثر من عام، جرى خلاله تداول كثير من الأوراق عن رؤية المشروع وغاياته، قبل أن تبدأ “الشبكة” بتوظيف كادر إداري متفرغ، عمل بجدّ على مأسسة المشروع وتطوير آليات عمله، لتسمّى الشبكة الوليدة “مدنية”، ويبدأ العمل على انضمام مؤسسات المجتمع المدني السوري إليها، إلى أن وصلنا لعقد مؤتمر إطلاق الشبكة من مقر معهد العالم العربي في باريس مطلع يونيو/ حزيران المنصرم.
ترتكز “مدنية” على جمع الفاعلين المدنيين السوريين بقرار وتمويل ذاتي/ سوري، لضمان الاستقلال عن إرادات سياسية أو تمويلية غير وطنية، وتهدف إلى تمكين العمل المدني السوري المتمثل بالمؤسسات المدنية والمبادرات الأهلية والعاملين والعاملات فيها، وذلك في إطار قيمي معلن يُتفق عليه كشرط للانضمام إلى الشبكة.
لتمويل انطلاقها والسنة الأولى من عملها، حصلت “مدنية” على منحة من مؤسسة الأصفري الخيرية والمعروفة بمحاولاتها لدعم المجتمع المدني في المنطقة، خاصة في سوريا، كون مؤسسها ورئيسها هو رجل الأعمال المعروف السوري أيمن أصفري.
وتطمح “مدنية” لتأمين تمويلها من قطاع الأعمال السوري، ومن رسوم الاشتراك المستحقة من كل مؤسسة تنضم إلى “مدنية”، والتي تتفاوت بحسب حجم المؤسسة وملاءتها التمويلية.
سياسة بلا سياسيين
مثل كثير من الناشطين، ابتعدتُ طوال السنوات السابقة عن أي انخراط بعمل سياسي حزبوي، ومع مرور الزمن اكتشفت أن بعض أسباب إحجامي عن التحزُّب واهنة وطفولية، وصمد بعض آخر من هذه الأسباب.
قبل الثورة كانت ممارسة السياسة تهمة قد تودي بصاحبها في ستين داهية، وكانت السلطة قادرة على وسم أي شيء بأنه سياسي، وبالتالي تبرير قمعه حتى أمام المجتمع المبرمج على كره السياسة وتحاشيها.
عندما كنسنا شوارع في مدينتنا داريا بريف دمشق (عام 2003)، قضينا عدة سنوات نراجع ما يعرَف بـ”السياسية” أو فرع الأمن السياسي في المزة، وتوجّه إلينا تهمة التدخل بالسياسة، ونحن ننكر ذلك ونصرّ على أن عملنا اجتماعي ولا علاقة لنا بالسياسة والعياذ بالله.
نتجاوز الكلام عن مظلة مدنية جامعة قبل الثورة، عندما كان النظام يستفرد بالمبادرات المجتمعية ويقمعها دون أي فرصة لها في الحماية.
وفي بداية الثورة، كان الناشطون منخرطون أكثر بالعمل الحركي، ومُنحت عدة تفويضات من الناشطين الحراكيين للأجسام السياسية المبكرة مثل المجلس الوطني ثم الائتلاف.
في لجان التنسيق المحلية، وهي تجمّع لتنسيقيات الحراك الثوري من مختلف المدن والبلدات السورية، بالإضافة إلى النشطاء المغتربين، كان عندنا “مكتب سياسي” ومكتب لصياغة البيانات (السياسية غالبًا)، وكانت المجموعة الكبيرة لا توفر صوتها/ أصواتها لانتقاد أداء المعارضة السورية وممثليها، وكان السادة والسيدات في الأجسام السياسية يستاؤون بدورهم من نيراننا الصديقة.
نتجاوز الكلام عن مظلة مدنية جامعة قبل الثورة، عندما كان النظام يستفرد بالمبادرات المجتمعية ويقمعها دون أي فرصة لها في الحماية، أتذكر هنا لجان إحياء المجتمع المدني، أو تجربة مجموعة داريا المتزامنة مع ربيع دمشق ومنتدياته الحوارية، وغيرها.
عزّل وبلا دروع
أثناء الحملة العسكرية على الغوطة الشرقية في بداية عام 2018، والتي انتهت بتهجير رافضي العودة إلى حضن النظام (معتقلاته بالأحرى) إلى شمال سوريا، وبعد عدة أيام من تصعيد عسكري (روسي-نظاموي) غير مسبوق، تجمّعنا بما سُمّي وقتها “التكتل المدني”، لنرفع من خلاله نحن النشطاء المدنيين صوتنا وصوت الناس المتعبين من حولنا.
كانت أهداف التكتل بسيطة، بالإضافة إلى حماية السكان والتواصل مع الجهات الداخلية الفاعلة والخارجية المؤثرة، أن يكون هناك صوت للمدنيين في تقرير مصيرهم، وأن يحضر المجتمع المدني كطرف في عملية التفاوض، وأن يتم تناول الغوطة الشرقية كوحدة جغرافية كاملة، وليس بناء على السيطرة الفصائلية وقتها (أحرار الشام في حرستا، جيش الإسلام في دوما وما حولها، فيلق الرحمن في باقي بلدات الغوطة)، كما ضمَّ التكتل -بخلاف التشكيلات الأخرى- نساء ناشطات.
عمل التكتل المدني بين نارَين أو أكثر (حقيقة ومجازًا)، فمن جهة لم يعترف جنرالات الروس المفاوضين إلا بقادة الفصائل الغوطانية (الأمنية خاصة)، والتي بدورها حاربت التكتل وعملت على تفكيكه لاعتباراتها الفئوية البحتة.
في المناطق “المحررة”، وعلامات التنصيص هنا ضرورية، لم ينقطع النشطاء عن مقاومة سلطات الواقع، واستعمال أدوات مختلفة بنوعيتها وفاعليتها للحدّ من تدخلات المتسلطين في عمل منظمات ومبادرات المجتمع المدني، أو حتى تدخلاتهم في تفاصيل حياة الناس.
واستمرت الحاجة إلى حماية هذه المنظمات والمبادرات، وحماية الفضاء الذي يتحرك به المجتمع عمومًا، هذا بالإضافة إلى ضرورة الحدّ من احتكار فئة من العاملين في المجتمع المدني السوري لكل اللقاءات والفرص.
“لعن الله ساس ويسوس وسائس ومسوس”
النفور من السياسة والتعامل معها كشيء دنس ومدنّس سمة لبلادنا المنكوبة، والتي ابتليت بديكتاتوريات تصادر الفضاء العام وتحتكر السياسة، وتجعل تداولها من قبل الناس جرمًا إلا في مساحة تلميع الديكتاتورية نفسها، بينما في البلاد الأخرى ترى عملية الانتخاب والتصويت مثلًا، وهي البديهية في أي ديمقراطية، فعلًا سياسيًّا وممارسًا من قبل -أو على الأقل متاحًا لـ- الناس.. كل الناس.
وللأسف، لم تتمكن الثورة من خلق مساحة أو فرص للأحزاب لتوسّع قواعدها الشعبية، لذلك نرى كل المحاولات للتكتل في حركات وأحزاب سياسية حتى الآن تقتصر على المؤسسين ودوائرهم الشخصية، من رفاق الفكر والنضال أو الأصدقاء.
بين مدني-سياسي وسياسي-سياسي
ما أريد قوله إن المجتمع المدني والناشطين المدنيين مارسوا السياسة بالفعل في كثير من المناسبات والتفاصيل، لكن لم تتم تسمية الأمور بمسمّياتها دائمًا، وبعض المنظمات تتعمّد الابتعاد عن الوسم بالسياسة تحت مسميات مثل الحياد وعدم الانحياز لأي من أطراف النزاع، ظنًّا منها أن ذلك يحفظ مصادر تمويلها.
ومع ذلك، نشأت فجوة عندما اشتغلت “المعارضة” بالسياسة والعلاقات الدولية من جهة، بينما تنهمك من الجهة الثانية منظمات المجتمع المدني بتقديم الخدمات والعمل البرامجي الصرف، أو تدجَّن ضمن أطر مسقوفة مسبقًا بحسب حاجة الممول أو المؤثر الدولي.
ابتعاد العاملين والعاملات في الشأن العام لا يعني فصلًا بجدار حديدي بينهم وبين السياسة.
بدا هذا الفراغ واضحًا أثناء محنة الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا، فرأينا مؤسسة الدفاع المدني تعلن الحداد العام وتنكس العلم.. علم الدفاع المدني، ويأخذ فريق ملهم التطوعي عدة أدوار ليست كلها له، كتقدير الاحتياجات والأولويات والناطق باسم المتضررين من الزلزال، وأمثلة أخرى غيرهما.
ومن هنا جاء طرح “الأحقية السياسية للفضاء المدني” كعنوان لمؤتمر إطلاق “مدنية”، فابتعاد العاملين والعاملات في الشأن العام لا يعني فصلًا بجدار حديدي بينهم وبين السياسة، كما أن بيان مواقفهم السياسية لا يضعهم في موقع تنافسي مع السياسيين.
أيمن أصفري وانخراط رجال الأعمال بالعمل المدني
منذ عدة سنوات وفي كل ورشات تقييم عمل منظمات المجتمع المدني التي حضرتها، ومنها التي أعمل بها (مكتب التنمية المحلية ودعم المشاريع الصغيرة (LDSPS))، تكون إحدى التوصيات هي ضرورة أن ينخرط القطاع الخاص ورجال الأعمال في العمل المدني لتأمين الاستقلالية المالية، ونقل العمل المدني من موضع المفعول إلى الفاعل، من حيث تنفيذ برامج يضعها لنفسه، بدل أن يبحث عن تقاطعات مع برامج الآخرين الممولين.
لكن لطالما تواطأ رأس المال مع السلطة، أي سلطة، سواء في توطيد الحكم وإدارة أموال المتسلطين وغسيلها، أو بالاغتناء من معاناة الناس وحصارهم، كما في السنوات الأخيرة، وربما الأسوأ هو الموقع الرمادي اللزج الذي يحبّه الأغنياء ليحافظوا على استثماراتهم مع الجميع.
رغم جدية السياق، لا أستطيع إلا أن أتذكر طرفتَين فيه: الأولى أن بعض منتقدي “مدنية” يتهمون رئيس مجلس إدارتها أيمن أصفري بـ”الطموح”، ليفرضوا على الرجل وعلى مؤسسي “مدنية” موقفًا دفاعيًّا ينفي تهمة الطموح، مثلما ينفي تهمة “عندهم أمل”.
والثانية هي مفارقة أتذكرها من لمّا سمعت باسم أيمن أصفري لأول مرة، وكانت في معتقل المخابرات الجوية في الشهور الأولى لانطلاق الثورة، حين التقيت في إحدى زنزانات مطار المزة العسكري بمهندس معماري لطيف ومتمكّن، وقال إنه من المستفيدين من منحة مؤسسة الأصفري الدراسية، وأن المنحة أنقذته من وحل الضياع والفساد في مؤسسات الدولة التي لا تقدّر تميزه، فانتقل إلى العمل مع أفضل شركات الإعمار والتصميم في المنطقة، وصار متاحًا له الحصول على أحسن الفرص.
طبعًا لسوء حظه كان ظهور هذه النعم عليه سببًا في اعتقاله، بعد أن قاوم الشبيحة الذين أرادو السطو على ماله ومصادرة سيارته.
الرهان على المكان الخطأ
بادر كثيرون بمحاولات عديدة للخروج من حالة انسداد الأفق التي نعاني منها كسوريين منذ سنوات، منها مشروع دُعيت له قبل بدء لقاءات تأسيس “مدنية” بعدة أشهر، سرعان ما تبيّن أنه يراهن على تغيُّر الإدارة الأمريكية بعد فوز بايدن على حساب ترامب، دون أي ذكر أو حضور للمجتمع السوري في مخيال المجموعة الداعية.
ولا شك أن هناك انتقادات أيضًا لـ”مدنية”، وقد يكون بعضها محقًّا، ولمنتقدي “مدنية” -بالمناسبة- يوجد لدي رجاءان ونصيحة: الأول أن يستمروا بانتقاداتهم، والأفضل لو اقترن الانتقاد بتقديم النصح والاقتراحات، وواجب “مدنية” أن تستمع وتناقش؛ والرجاء الثاني هو تحرّي الحقيقة قبل إصدار الأحكام (لن أناقش أحقية إصدار الأحكام هنا).
أما النصيحة، وكانت من قيم مؤتمر إطلاق مدنية، هي “الثقة كفعل مقاومة” مقابل ما يعمل عليه كل مستبد من زرع الشك وسوء الظن والروح العدمية بين الأهل والشركاء.
المهم أن تنفتح “مدنية” باتجاه المجتمع ومنظماته المدنية والأهلية وحتى أفراده، وتعمل على ما يضمن بقاء البوصلة من وإلى الناس، يجذبها حقل السوريين والسوريات أنفسهم/ن، وليس المانح، ولا الإرادات الدولية والإقليمية، ولا “ترندات” التطبيع والتصعيد البعيدة عن مصلحة البلد وأهله.
الأمل؟
مع إدراك أن الوضع السوري معقد، ولا أحد يمتلك عصى موسى ليقوم بتفكيك كل التعقيدات بضربة واحدة تفلق هذا التحجُّر ويعمّ الخير بعدها، قد لا نجد شيئًا أهم من استعادة الأمل الذي فقده كثير من السوريين والسوريات ضمن قائمة طويلة من الفقد، على المستوى الشخصي والعام.
ثم يأتي التواصل الذي حرمتنا منه الحدود وسلطات الواقع والتهجيرات القسرية المتعددة، أن يجتمع عدد من السوريين والسوريات من كل المناطق والخلفيات الإثنية والفكرية، بمسمّى مدني من أجل نقاش سياسي، هذا بحدّ ذاته مكسب.
صحيح أن لقاءنا بدعوة وطنية وبمسمّى وطني -ولو خارج البلد- هو مكسب تشهد له الكهرباء التي سرت بين المؤتمرين خلال يومَي إطلاق “مدنية”، إلا أن “مدنية” تبقى بداية وليست غاية بحدّ ذاتها، والنجاح أو الفشل برسم المستقبل، وبمدى قابلية المنضمّين لهذا المشروع للانخراط والمشاركة في تحديد الأولوليات وصياغة الأهداف، ثم تأطيرها ضمن برامج عمل، ووضع مخرجات واضحة ثم رصدها، بالإضافة إلى تطوير السياسات الداخلية والحفاظ على مرونتها وانفتاحها على المجتمع.
كل ذلك تحت مظلة القيم التي ينضم الأعضاء بناءً عليها، وفي مقدمتها مشروطية حقوق الإنسان والديمقراطية ونبذ العنف، وباقي قيم “مدنية” التي كانت الورقة الأولية والوحيدة التي اقترحها المجلس التأسيسي لـ”مدنية”، بينما تُرك أمر وضع البرامج وخطط العمل وحتى قبول أو تعديل حوكمة المنظمة برسم المجموعة المنضمة كلها.
فبالنهاية يجب البدء بمجموعة مع ضمان ديناميكيات توسعها أو تغييرها، بحيث تطرح القيم ولا تطرح برنامجًا، فالأحزاب هي من تطرح برامج عمل مبنية على أفكار معيّنة، لتبدأ من هناك بالتبشير بهذا “المانيفيستو” وتحشيد الناس تحت لوائه، وهذا بالطبع ليس دور المجموعة المؤسسة لـ”مدنية”.