بشكل يومي، وما إن تشرق الشمس على مدينة الباب الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية شمال شرقي حلب، حتى يبدأ أسطول من الشاحنات المحملة بالصهاريج بالتجوال بين الأحياء والحارات الضيقة لبيع المياه للأهالي، وكخلية النحل يعمل الأسطول لساعات متأخرة من الليل لتغطية الطلب المتزايد على المياه في المدينة المكتظة بالسكان، والتي تعاني العطش منذ 7 سنوات تقريبًا.
رغم تدخل العديد من المنظمات الإنسانية والمجلس المحلي لإيجاد حل، إلا أن مشكلة العطش في الباب لا تزال مستمرة، فالأزمة بدت حادة وتصاعدت بشكل واضح مع بداية فصل الصيف، فالمدينة تعتمد بشكل أساسي على الآبار الارتوازية المنتشرة في القرى القريبة كمصدر للمياه.
ونتيجة للاعتماد المتزايد على المياه الجوفية، تدهورت جودة المياه وانخفضت مستوياتها، وشهدت الأسعار ارتفاعًا مفاجئًا، ليس فقط بسبب جفاف الآبار وزيادة الطلب، بل كان لانخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي دور أيضًا في زيادة الأسعار.
تتبّع “نون بوست” حركة أسطول الصهاريج في الباب، وجال على نقاط تجمعها الرئيسية في ساحات المدينة، واطّلع على الأسعار وآلية البيع والتوزيع، ومصادر المياه وحجم الطلب، وأنواع المياه المتوفرة واستخدامات كل نوع منها، وتابع تفاصيل أزمة المياه ومسبّباتها الحقيقية.
كما استطلع آراء الأهالي حول الأزمة التي زادت من أعبائهم المالية، وجعلت يومياتهم في تدبير شؤون المعيشة وتغطية تكاليفها أكثر صعوبة، واستمع الموقع إلى مطالب الأهالي التي لطالما رفعوها في تظاهراتهم (احتجاجات المياه) المتكررة على مدى سنوات.
أسباب الأزمة
تعتمد مدينة الباب وضواحيها القريبة منذ عام 2006 على مياه نهر الفرات، التي تصل إلى محطة ضخّ عين البيضا القريبة من مطار كويرس العسكري، التي تبعد عن الباب نحو 12 كيلومترًا.
وكانت المحطة تضخ قرابة 25 ألف متر مكعب يوميًّا كمياه شرب توزَّع على منازل المدينة عبر شبكة المياه، وكان يصل حينها ما يزيد عن 100 ألف متر مكعب لريّ الأراضي الزراعية، قادمة عبر أنابيب خاصة من محطة الخفسة الواقعة على ضفاف الفرات أيضًا.
ومع انطلاقة الثورة السورية، وفيما بعد دخول فصائل الجيش الحر الأحياء الشرقية بحلب منتصف عام 2012، وتوسُّعها في ريف المحافظة ووصولها إلى ضفاف نهر الفرات، كانت المحطات التي تضخّ المياه إلى الباب تحت سيطرة الفصائل، حتى تلك التي كانت تغذي مدينة حلب بالمياه.
لكن الفصائل خسرتها لاحقًا لصالح تنظيم “داعش” الذي تمدد في المنطقة عام 2014، وبقيَ ضخّ مياه الفرات مستمرًّا إلى الباب رغم سيطرة التنظيم حتى أواخر عام 2016، فالمدينة كانت أحد معاقله البارزة شمال سوريا وأولاها اهتمامًا خاصًّا.
ومع انطلاق عملية “درع الفرات” التي دعمها الجيش التركي ضد التنظيم بريف حلب وصولًا إلى الباب، كانت قوات النظام قد أطلقت أيضًا معركة متزامنة تمددت خلالها على حساب التنظيم في الريف الشرقي لحلب وصولًا إلى الفرات، ما مكّنها من السيطرة على الخفسة ومحطات الضخ، ومنذ ذلك الوقت قُطعت المياه عن الباب بحجّة تضرر المحطات، وهي مزاعم كاذبة أطلقها النظام ليغطي على جريمته الانتقامية من أهالي المدينة.
وفي سبتمبر/ أيلول 2022، زار وفد أوروبي محطة مياه الخفسة على ضفاف الفرات، وأشار الوفد إلى أن الاتحاد الأوروبي ولجنة الصليب الأحمر الدولي ترعى مشروعًا لإعادة تأهيل المحطة، دون التطرُّق للمناطق التي تغذيها المحطة كمدينة الباب، والتي قطع النظام عنها المياه.
احتجاجات المياه
شهدت مدينة الباب في الفترة ما بعد عام 2017 احتجاجات متكررة تطالب بوضع حدّ لأزمة المياه، وسبق أن نظّم ناشطون في المدينة حملة تحت عنوان “الباب عطشى”، طالبوا خلالها بتدخل الجهات المحلية والخارجية لإيجاد حل للأزمة، وراح بعض الناشطين إلى تحميل الحكومة التركية المسؤولية باعتبارها صاحبة النفوذ في المنطقة.
وجدد المحتجون مطالبهم مؤخرًا بعدما تصاعدت الأزمة، وارتفعت أسعار صهاريج المياه إلى حدود غير معقولة بفعل انخفاض قيمة الليرة، في الوقت الذي بقيت فيه المداخيل الشهرية للموظفين والعاملين في القطاعات الخدمية العامة على حالها، والأمر ذاته ينطبق على أجور المهن الحرة على تنوعها.
قال قصي نجار (من أهالي مدينة الباب)، أحد المشاركين في احتجاجات المياه مؤخرًا (أواخر يونيو/ حزيران)، إن المجلس المحلي عاجز عن تقديم حلول جذرية لأزمة المياه طيلة السنوات السبع الماضية.
وأضاف نجار لـ”نون بوست”: “شهدت الباب زيادة سكانية كبيرة في الفترة ما بعد عام 2017، بعد قدوم موجات المهجرين من الجنوب والوسط السوري، ولا يمكن تلبية احتياجات سكان المدينة بالمياه إلا عن طريق جرّ المياه من جرابلس الواقعة على ضفاف الفرات قرب الحدود مع تركيا”.
مكملًا: “بالتالي كل الحلول التي عمل عليها المجلس من حفر آبار ونقل المياه بالصهاريج الكبيرة حلول مؤقتة لا تلبّي الاحتياجات المتصاعدة، يجب أن يتدخل الجانب التركي للمساعدة في تنفيذ هذا المشروع الحيوي”.
تحركات المجلس المحلي
أصدر المجلس المحلي في مدينة الباب بيانًا في 10 يونيو/ حزيران، أكّد فيه استمرار معاناة أكثر من 300 ألف من سكان المدينة في تأمين مياه الشرب، وأوضح البيان أن هناك أكثر من 4 آلاف و500 هكتار من الأراضي الزراعية في طريقها للجفاف والتصحُّر نتيجة ندرة المياه.
وأشار إلى أن هذا سيتسبّب في كارثة صحية، حيث يضطر الأهالي لاستخدام مياه غير صالحة للشرب، لافتًا إلى أن المجلس المحلي يقوم بتوزيع المياه على الأحياء لمدة ساعة أسبوعيًّا، وهي كمّية لا تكفي لتلبية احتياجات السكان.
وناشد المجلس في بيانه جميع المنظمات المحلية والدولية بضرورة التدخل العاجل، لإيجاد حلول سريعة ومستدامة لتفادي هذه الكارثة الإنسانية، وطالب بتقديم الدعم والمساعدة لتأمين مياه الشرب بشكل منتظم لسكان المدينة، بما يضمن حقهم الأساسي في الوصول إلى المياه النقية والصالحة للشرب.
أضاف البيان أن 5 آبار من أصل 13 بئرًا اُستخرجت المياه منها خارج الخدمة، و8 آبار فقط تعمل بمعدل تدفق 40 مترًا مكعبًا في الساعة، لذلك الوضع المائي في المدينة غير منتظم ويتطلب تدخلًا عاجلًا لحماية المدينة من الجفاف ونقص المياه وتصحر الأراضي الزراعية، والتي تبلغ مساحتها 4 آلاف و500 هكتار، وذلك لتلافي كارثة إنسانية تهدد حياة مئات الآلاف.
كما دعا المجلس المحلي أهالي المدينة للمشاركة في الاحتجاجات المطالبة بتدخل دولي عاجل لوضع حدّ للأزمة.
قال مسؤول في مديرية الخدمات البلدية التابعة للمجلس المحلي لمدينة الباب (طلب إخفاء هويته) لـ”نون بوست”، إن “المديرية تواصل أعمالها بالبحث عن حلول بديلة لتأمين مياه الشرب، وتعمل في الوقت ذاته على التواصل مع جميع المنظمات الإنسانية والدولية للحصول على المساعدة وإيجاد حل جذري لكارثة المياه التي يواجهها الأهالي”.
وأضاف: “البنية التحتية وعموم خطوط شبكة المياه في المدينة جاهزة لاستقبال الضخ، في حال استئنافه من المحطات الواقعة ضمن مناطق سيطرة النظام”، وحول مشروع استجرار مياه الفرات من جرابلس إلى الباب، أوضح أن “المجلس لديه الدراسات اللازمة لتنفيذ المشروع، في حال حصل على الدعم اللازم”.
بعد توقف محطات الضخ قبل 7 سنوات، بدأ المجلس المحلي في الباب الاعتماد على المياه الجوفية لتغطية الاحتياجات، وعام بعد عام كان ينخفض منسوبها في الآبار القريبة من طوق المدينة، وهو ما دفع المجلس إلى التوسع في عمليات الحفر عشرات الكيلومترات نحو الشمال، بحثًا عن مصادر مياه أكثر غزارة وديمومة.
وبالفعل حفر المجلس الكثير من الآبار في تجمعات سوسيان وصندي ومناطق قريبة من بلدة الراعي، لكن هي الأخرى بدأت تنضب بسبب الاستجرار المتزايد وانخفاض منسوب المياه الجوفية، بفعل الهطولات المطرية بمعدلات قليلة التي سادت خلال السنوات القليلة الماضية في المنطقة.
أسطول الصهاريج
بحكم طول المسافة بين مدينة الباب ومجموعة الآبار الارتوازية في ريفها البعيد، خصّص المجلس المحلي في المدينة وبدعم من المنظمات الإنسانية عددًا من الصهاريج الكبيرة (سعة الواحد منها يزيد عن 25 ألف ليتر)، لتنقل مياه الشرب من آبار سوسيان وصندرة وتجمُّع الآبار قرب الراعي.
وتتوقف الصهاريج الضخمة في أماكن معروفة حددها المجلس على أطراف المدينة، لتتجمّع حولها الشاحنات التي تحمل الصهاريج الصغيرة (تتراوح سعتها بين 2000 و4000 ليتر).
تبيع الصهاريج الضخمة المياه للصهاريج الأصغر بأسعار مخفّضة (سعر 1000 ليتر مياه عذبة 35 ليرة تركية، وضعف الكمية بسعر 70 ليرة تركية)، ويصنع أصحاب الصهاريج التي تجوب شوارع المدينة وتوزّع المياه على الأهالي أرباحًا تساوي ضعف سعر المياه التي اشتروها من صهاريج المجلس، أي أن الصهريج الذي يتسع لـ 4 آلاف ليتر يصبح سعره 140 ليرة تركية.
ويبرر أصحاب الصهاريج رفعهم للأسعار بأنها ضرورية لتغطية مصاريف الشاحنة من وقود وتكاليف إصلاح دورية، بالإضافة إلى هامش الربح المستحق.
أبو مجد الحمصي (مهجّر من ريف محافظة حمص الشرقي، ويقيم في الباب) صاحب صهريج يتّسع لـ 4 آلاف ليتر، يبيع يوميًّا 6 صهاريج مياه في الفترة ما بين 6 صباحًا و12 ليلًا، ويعزو الكمية المحدودة التي يبيعها إلى الازدحام على الصهاريج الضخمة، ويضطر للانتظار طويلًا إلى أن يأتي دوره ويملأ خزّانه بالمياه.
الحمصي التقاه موقع “نون بوست” عند دوار الكف في الجهة الجنوبية من مدينة الباب، والدوار هو التجمع الأكبر للصهاريج الصغيرة، حيث تصطف على جانبَي طريق مزدوج (أوتوستراد) عشرات الصهاريج التي تنتظر الزبائن.
قال الحمصي: “هناك 10 تجمعات رئيسية للصهاريج الصغيرة، أهمها تجمع دوار الكف وتجمع دوار الجحجاح وتجمع دوار السنتر وتجمع دوار الراهب”.
وأثناء تجوالنا بين الصهاريج المتجمعة على أطراف دوار الكف، كان محمد أبو الحسن، وهو رجل سبعيني قد وصل على دراجة نارية (3 عجلات) إلى المكان، وبدأ يفاوض أبو مجد الحمصي على سعر 1000 ليتر من المياه، الحمصي طلب 70 ليرة، وعرض الرجل 65 ليرة فقط.
تبدو الـ 5 ليرات ذات قيمة بالنسبة إلى العائلات الفقيرة التي تعاني بشدة بسبب انخفاض قيمة الليرة وتضاعف أسعار المياه خلال شهر تقريبًا، فقبل شهرَين كان سعر 1000 ليتر لا يتجاوز 35 ليرة تركية، حينها كانت أسعار الصرف تحوم حول 20 ليرة تركية لكل دولار، أما اليوم فقد تجاوزت أسعار الصرف حاجز 26 ليرة تركية مقابل كل دولار.
يقول أبو الحسن لموقع “نون بوست” إن تأمين المياه يشكّل هاجسًا بالنسبة إليه، فهو ربّ لعائلة عدد أفرادها 10، ويحتاج كل يومَين 1000 ليتر من المياه العذبة المخصّصة للطبخ والشرب، في حين يعتمد على المياه المالحة والتي تبيعها مجموعة من الصهاريج بأسعار أرخص، وهي مخصصة للغسيل وشطف الأرضيات وغيرها”.
وعند سؤاله عن المبلغ الذي يدفعه شهريًّا لتأمين المياه لعائلته، قال أبو الحسن: “أدفع 1300 ليرة تقريبًا مقابل 15 ألف ليتر مياه عذبة شهريًّا، وضعفها مياه مالحة، والمبلغ تشكّل نسبته 40% من مدخولي الشهري، ولولا الاستعانة بأبنائي الذين يعملون أيضًا لما تمكّنت من تغطية تكاليف المعيشة”.
جرت العادة أن تصطف الصهاريج المحملة بالمياه الحلوة على نسق واحد على يمين الطريق المتفرع عن دوار الكف، بينما تصطف الصهاريج المحملة بالمياه المالحة على يسار الطريق.
وما يميز المياه المالحة غير الصالحة للشرب عن الحلوة، هو أن المالحة يمكن للصهاريج الصغيرة جلبها من أماكن قريبة بمحيط المدينة، حيث ينتشر عدد من الآبار السطحية التي يبيع أصحابها كمية 2000 ليتر بمبلغ 20 ليرة تركية فقط، وصاحب الصهريج يبيعها بسعر 50 إلى 60 ليرة تركية، أي أن سعرها أقل بمقدار النصف عن سعر المياه العذبة.
وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في الحصول على الماء، يجب أن يحصل الشخص على كمية كافية من المياه للاستخدام الشخصي والمنزلي تتراوح بين 50 و100 لتر يوميًّا، كما ينص القرار على ضرورة توفير المياه بأسعار معقولة، وأن تكون متاحة مكانًا وزمانًا وألا يستغرق الحصول عليها أكثر من 30 دقيقة.
وعلى أية حال، لا تبدو أزمة المياه في الباب في طريقها إلى الحل، فالآمال التي يعلقها الأهالي على استجرار مياه الفرات من جرابلس صعبة التنفيذ، إذا لم تتدخل جهات خارجية يمكنها تحمّل تكاليف هكذا مشروع ضخم، كما أن إعادة تشغيل محطات الضخ من قبل النظام فرضية غير قابلة للتطبيق في الوقت الحالي.