ما زلنا نواصل إلقاء الضوء على تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية، فاستعرضنا موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف الحروب من علاقات، ثم العلاقات الدبلوماسية المتمثلة بالسفارات وتبادل الهداية.
وقد استعرضنا في المقال السابق شذرات عن السفارات منذ زمن النبي حتى أواسط العصر العباسي، ونواصل هذا الحديث فيما يلي من سطور:
وأما مرحلة الحروب الصليبية فلم يكن يكافئ كثرة المعارك فيها إلا كثرة السفارات التي تُثمر معاهدات هدنة قصيرة أو طويلة بحسب الأحوال، فإن تعددت الأطراف – إذا دخل إمبراطور بيزنطة على خط الصراع، أو جاءت حملة جديدة، أو انشق أمير صليبي أو مسلم – كان ثمة سفارات أخرى سرية وعلنية لترتيب الأوضاع، وعقد ما يُستجد من تحالفات ومعاهدات.
ولم يختلف حال السفارات كثيرًا في عهد المماليك، إلا أنه كان أقل من عصر الحروب الصليبية، فقد تمكن المماليك من تطهير الساحل الشامي وانتهت الحملات الصليبية إلى الفشل، ومن ثمَّ كان تواصلهم الأهم مع أوروبا مقتصرًا على بلاد أسيا الوسطى – التي صارت في ذلك الوقت مسلمة في غالبها، ومن ثمَّ فلا تُعتبر من الغرب حينئذ [1]- ومن خلفهم من بلاد البلغار والصرب، والجمهوريات الجنوبية كجنوة والبندقية، وجرت لهم مراسلات مع الإسبان أيضًا، ومن يطالع كتاب القلقشندي “صبح الأعشى” – وقد عمل لعشر سنوات كاتبًا في بلاط السلطان الظاهر برقوق – يجد مادة مهمة في مكاتبات السلاطين المماليك مع هذه البلاد ومعلومات قيمة عنها وعن ملوكها وتبدل أحوالها وما يترتب على هذا من ألقاب وآداب الرسائل والمخاطبة [2]، وكتاب القلقشندي هو خلاصة ما كُتب قبله في هذا الباب [3]، ومن طرائف ما وقع في مراسلات المماليك والإسبان أن المراسلات كانت مستمرة بينهما مع ما يعرفه كل طرف من عداوة الآخر له، فأرسل ملك الإسبان مرة هدية: سيفًا ونعشًا، فكان ظاهرها الهدية وباطنها التهديد، فرُدَّ عليه بهدية أخرى: حبل وحجر أسود، ظاهرها الهدية أيضًا وباطنها تشبيهه بالكلب إما أن يُربط بالحبل أو يُضرب بالحجر [4]، ونرى من بين أعضاء السفارات في هذا العصر نجومًا لامعة بحجم ابن واصل وابن خلدون.
لكن الزيادة في العلاقات انتقلت إلى الدولة العثمانية التي افتتحت جبهة أخرى مع البيزنطيين وفي شرق أوروبا، حتى إنها لما قضت على الدولة البيزنطية استكملت المسير نحو ممالك أوروبا، ثم ظهر لها في الشمال الروس، وقد تطورت العلاقات السياسية عبر القرون حتى صارت السفارات العلمية بعثات علمية حين أيقن العثمانيون بأنهم في حاجة إلى التعلم من أوروبا، فمنذ أواخر القرن السادس عشر “صار عُرفًا عند سفراء تركيا إلى أوروبا أن يكتبوا تقارير مفصلة عند عودتهم إلى بلادهم يصفون ما شاهدوه، وما قاموا به من أعمال” [5]، وبعدها صار ثمة سفراء دائمون وبعثات أجنبية متبادلة بين الدول تقوم على رعاية الأجانب المقيمين في الدولة وتسعى للحفاظ على ما لهم من امتيازات – أُخِذت بالرضا أو بالحرب – كما تسعى لانتزاع امتيازات جديدة، ومن ثَمَّ فإن أخبار السفارات في العصر العثماني هي أغزر ما لدينا من مواد في هذا المجال.
وفي الجناح الغربي للعالم الإسلامي كانت للأندلس علاقات سياسية أيضًا بما جاورها من ممالك أوروبا حتى أقصى الشرق الأوروبي: القسطنطينة، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تيوفيلوس (توفلس) مواجهة الغزوات العباسية في أرضه بفتح قنوات اتصال سياسية مع أمير الأندلس عبد الرحمن الأوسط، فأرسل إليه بسفارة (840م) تحمل الهدايا والمودة وطلب التحالف على العباسيين، وعاد السفير البيزنطي ومعه يحيى بن الحكم الغزال سفيًرا من قرطبة، ومعه خطاب ودِّي فيه ردٌّ سياسي يؤكد الصداقة بينهما والعداوة للعباسيين ولكن لا ينبني عليه عمل ضدهم، غير أن الغزال استطاع النفاذ إلى قلب الإمبراطور وزوجته وولده ميخائيل فكانت بينه وبينهم منادمات وصحبة سجل بعضها في شعره [6]، ثم كانت للغزال سفارة أخرى (نحو 845م) إلى الدانمارك [7] تؤكد عهد الصلح الذي طلبه ملكهم هوريك من عبد الرحمن الأوسط، ووقع السفير ذات الموقع الحسن بما له من مواهب الجمال وحسن البيان والتصرف، وكانت له مساجلات وجدالات مع علماء القوم وفرسانهم، ولكن الذي اشتهر أكثر هو ما انعقد بينه وبين ملكتهم من صلة وإعجاب، وكيف أن هذا لم يكن مشينًا في ثقافتهم وعاداتهم [8].
وقد تكررت سفارات الأندلس مع ملوك أوروبا، وحاولت الإمبراطورية مرة ثانية التحالف مع الأندلس – ربما ضد العبيديين هذه المرة – ووفدت سفارات فرنسية وألمانية، وكان ملك ألمانيا زعيم النصرانية في أوروبا مثلما كان الناصر زعيم الإسلام، وجرى بينهما حديث في السياسة وفي الدين كذلك، وكان سفير الأندلس إلى ألمانيا أسقفًا مسيحيًا، وقد نقل السفير للناصر معلومات مهمة عن ألمانيا ونظام الحكم فيها [9].
وبعد سقوط الأندلس نشأت صلات سياسية بين ملوك المغرب وملوك أوروبا، وقد سجل أفوقاي الأندلسي في رحلته مهمته التي كلفه بها السلطان السعدي الناصر زيدان، وكانت سفارة منه إلى ملك فرنسا لإصلاح أوضاع المسلمين المُهجرين من الأندلس، وروى كذلك عن سفارة متبادلة بين سلطان المغرب وملك هولندا للتحالف على إسبانيا، وكانت هولندا قد دخلت في البروتستانتية وخلعت الحكم الإسباني [10].
ومن عجيب ما يذكره أن العلاقات العثمانية الإسبانية كانت منهارة لسببين: غدر الإسبان بالمسلمين الأندلسيين، وغدر الإسبان بملك المكسيك مُتَشُمَه [11]، مما يعني سعة اطلاع العثمانيين بما يحدث في أقصى الغرب عند المكسيك، ولهم هناك صلات ينبني على الاعتداء عليها عداوات في أوروبا.
ومن يطالع كتب التاريخ يرى كثيرًا من السفارات لا يهتم المؤرخون فيها بسبب السفارة ونتائجها قدر ما يهتمون بما كان فيها من سجالات علمية وأدبية وإفحامات وردود على البديهة ومعلومات عن عادات الروم وطباعهم ورسومهم ونحو ذلك، بل لا نبعد أن نقول إن أغلب ما نعرفه من أخبار السفارات هو ما كانت فيه هذه الأمور [12]، وأغلب الظن أن هذا كان مقصودًا؛ فالسلطة بطبيعة الحال لا تشيع ما يجري في أروقتها بينما لا بأس لديها بانتشار وتسرب ما هو خارج العلاقة السياسية، ونجد هذا صريحًا واضحًا لدى سفراء الدولة العثمانية الذين كانوا مكلفين بتسجيل “مشاهداتهم على الطرق التي مروا منها في رحلاتهم والأماكن التي زاروها وعظمة المراسم التي جرت في الاجتماعات التي شاركوا فيها” وكذلك “مظاهر التقدم والعمار فيما حولهم”، بينما لم يُعرف “ما كان يدور بينهم وبين الآخرين من اتصالات ومباحثات يمكن أن تلقي الضوء على تاريخ الدبلوماسية العثمانية، إذ كانوا يعتبرون ذلك سرا من أسرار الدولة” [13].
ومن أعجب ما نستفيده في أمر السفارات أن وجود السفارات الدائمة في أول أمرها لم يكن تعبيرًا عن قوة الصداقة كما يتبادر إلى أذهاننا الآن، بل هو يعبر عن الذِّلة، فالطرف الأضعف هو الحريص على وجود سفارة دائمة له عند الطرف الأقوى بينما لا يحفل الأقوى بذلك، بهذا فسَّر أفوقاي الأندلسي وجود سفراء أوروبيين دائمين لدى العثمانيين بينما لم يهتم العثمانيون بإيجاد سفارات لهم في بلاد أوروبا [14].
ومما يدخل في باب السفارات – بنوع من التكلف – هو زواج الخلفاء والسلاطين من بنات خصومهم الغربيين، فهي علاقات سياسية في النهاية، وقد أمدت قصور الحكم بمعرفة دقيقة عن بلاد الزوجة، وإن كان يصعب علينا بطبيعة الحال العثور على هذه المعارف.
وفي المجمل فلقد كانت السفارات أكثر من الحروب، فهي ترافق الحروب لإنهائها وحصد نتائجها، كما أنها تنفرد بنفسها في مسائل سياسية ودعوية وعلمية وعلاقات تحالف وتعاون مؤقت أو طويل، فكانت بهذا مصدرًا غزيرًا من مصادر معرفة المسلمين بالغرب.
——————————————-
[1] وهذا حسب المنهج الذي اتخذناه لأنفسنا وقدمناه في “منهج البحث”.
[2] القلقشندي: صبح الأعشى 8/11 وما بعدها.
[3] من أهم ما كتب قبل القلقشندي ونجد فيه مادة قيمة في أحوال الممالك، كتاب “التعريف بالمصطلح الشريف” لابن فضل الله العمري (ت 749هـ)، وقد أضاف عليه ابن ناظر الجيش (ت 786هـ) إضافات بعده في كتابه “تثقيف التعريف بالمصطلح الشريف”، وكثيرا ما يعتمد القلقشندي على كتاب التثقيف هذا.
[4] القلقشندي: صبح الأعشى 8/35، 36.
[5] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص128.
[6] المقري: نفح الطيب 2/258، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/282 وما بعدها.
[7] وكانت عاصمة النورمان الذين كان يسميهم المسلمون بالمجوس، وقد بلغ ملكهم حينها الدانمارك وما حولها من الجزر، وقسماً من إسكندناوة وألمانيا الشمالية.
[8] ابن دحية: المطرب في أشعار أهل المغرب ص138 وما بعدها.
[9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/456 وما بعدها.
[10] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص52، 53، 70، 77، 114.
[11] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص101.
[12] انظر مثلاً: أبو يعلى الفراء: رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة.
[13] محمد إبشيرلي: نظم الدولة العثمانية، ضمن “الدولة العثمانية تاريخ وحضارة” بإشراف: أكمل الدين إحسان أوغلو 1/234، 235.
[14] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص101.