ينتمي مصطلح “الاستغراب” إلى فئة الكلمات التي تُستعمل في العلوم الإنسانية ولا تعني بالضبط معناها اللغوي، وإنما هو مصطلح متولد من تفاعل وتطور تاريخي ثقافي وحضاري، ولهذا يتوجب علينا أن نلقي الضوء حول ما تعنيه كلمة “الاستغراب”.
لقد ظلت كلمة “الاستغراب” تستعمل بمعناها اللغوي المباشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وهو المعنى الذي يدور حول الدهشة والحيرة من غرابة شيء ما، وأصل الغرب في اللغة البُعْد، ومنه جاء معنى المبالغة حين يُقال أغرب في الضحك أو استغرب ضاحكًا أي بالغ فيه [1].
ثم زاد إلى دلالتها معنى جديد، وهو التعبير عن الافتتان بالغرب وحضارته ومتابعة الغربيين في أنماط النظر والفكر والتصورات، وأقدم ما وجدناه من استعمال لفظ “الاستغراب” بهذا المعنى كان عند أديب العرب مصطفى صادق الرافعي في كتابه تاريخ آداب العرب [2] في أوائل القرن العشرين، فقد صدر هذا الكتاب (1911م)، ثم عند د. زكي مبارك في أواخر الثلاثينيات في مجلة الرسالة، فقد كتب ضمن قصته عن “ليلى المريضة في العراق” هذه العبارة: “وأخذت ليلى تقلب الجرائد بحضور السيدة نجلاء فرأت في السياسة الأسبوعية مقالة في رثاء أستاذ مستشرق اسمه بول كازانوفا كتبها أستاذ مستغرب اسمه طه حسين، وتدخل الشيخ دعّاس ليشرح المراد من الاستغراب والاستشراق” [3]، وأكمل القصة في العدد التالي فقال: “أفاض الشيخ دعاس في شرح الاستشراق والاستغراب ففهمنا أن المستشرق هو الذي يدّعي علم الشرق، والمستغرب هو الذي يدّعى علم الغرب” [4]، ومنذ ذلك الوقت انتشر هذا الاستعمال، حتى لنجده عنوانًا لرسالة كتبها الشاعر علي سرطاوي من العراق ونشرت في مجلة الرسالة المصرية، عنوانها “المستغربون”، حمل فيها حملة شديدة على المنبهرين بالغرب، وعرَّض فيها بطه حسين وأمثاله [5].
ثم اضطرد استعمال اللفظ بهذا المعنى في كتابات المصلحين الإسلاميين منذ أوائل الخمسينيات، نذكر منهم: الشيخ البشير الإبراهيمي في مذكرة (بتاريخ 20 مارس 1953م) عَرَض فيها جهود جمعية العلماء الجزائريين، قال: “لولا هذه الجمعية لضاع على العرب نصف عددهم، وهو ثلاثون مليونًا هم سكّان المغرب العربي، وجرفهم تيّار الاستغراب والبربرة، ولولا هذه الجمعية لضاع على المسلمين هذا العدد من الملايين” [6]، ومنهم الأديب الكبير شيخ العربية أبو فهر محمود شاكر في مقاله “وهذه هي أخطارها” (بتاريخ يناير 1965م) ضمن ردوده على لويس عوض في مجلة الرسالة [7]، والشيخ مناع القطان في “تاريخ التشريع الإسلامي” [8]، وعبد الرحمن حبنكة الميداني في “أجنحة المكر الثلاثة” [9] وقد صدرت طبعته الأولى (1975م) وأصله حلقات إذاعية بُثت أواخر الستينات، والشيخ محمد الغزالي في “ظلام من الغرب” [10] وقد صدرت طبعته الأولى (1979م)، والشيخ محمد قطب في “مذاهب فكرية معاصرة” [11] وقد صدرت طبعته الأولى (1983م)، وشاعت الكلمة والوصف في كتابات المفكر المجاهد الشهيد عبدالله عزام في الثمانينات [12]، وللشيخ الأصولي د. عبد العظيم الديب فصل في كتابه “منهج الغربيين في الكتابة عن التاريخ الإسلامي” (أكتوبر 1990م) عنونه بقوله: إلى المستغربين [13]، واستعملها كذلك العلامة القرضاوي في العديد من كتبه [14].
وقد استعملها المترجمون أيضًا بهذا المعنى، نذكر منهم د. محمد عبد الهادي أبو ريدة حين ترجم كتاب “وجهة العالم الإسلامي” للمستشرقيْن: هاملتون جيب ولويس ماسينيون [15] وكان ذلك عام 1934م، والأديب الكبير عباس العقاد حين ترجم مقتبسات من بحوث غربية ونشرها في كتابه “ما يقال عن الإسلام”، وكان ذلك عام 1964م [16]، ومحمد كاظم السباق حين ترجم كتاب “الحجاب” لأبي الأعلى المودودي [17].
هذا وإن كانت الغلبة في التعبير عن هذا المعنى قد حازتها ألفاظ: التغريب، التغرب، التفرنج ونحوها.
ثم أضيف لكلمة “الاستغراب” معنى آخر بكتابات حسن حنفي في الثمانينات، وهي الكتابات التي تُوِّجت بمؤلفه “مقدمة في علم الاستغراب” والصادر عام (1991م)، وهو معنى نقيض “الاستشراق” ويهدف إلى دراسة الغرب برؤية شرقية، وهذه الدعوة نفسها قديمة جدًا لكنها لم تُسَمَّ بهذا الاسم قبل كتابات حنفي فيما نعلم، لكن هذا الاسم – لكونه مختصرًا وقريبًا من الظاهرة الثقافية الواسعة التأثير وهي ظاهرة الاستشراق – لاقى قبولاً، وتلقفه بعد هذا عديد من المفكرين وإن خالفوا حسن حنفي في كل شيء تقريبًا إلا في ضرورة وحاجة الأمة لدراسة الغرب برؤية ذاتية معتزة بنفسها، وسرى استعمال الكلمة في مؤتمرات علمية وندوات وبحوث ومقالات في الصحف والمجلات العلمية والجماهيرية، واليوم صارت الكلمة عَلَمًا على هذا المعنى في غالب الأحوال.
ولكن ثمة من لم يزل يستعمل “الاستغراب” بمعنى “التغرب أو التغريب”؛ من أولئك د. عبدالله الشارف في كتابه “أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب” [18] وكتابه “الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر” [19]، ود. محمود خليف حضير الحياني في كتابه “الاستشراق والاستغراب” [20]، ولايزال لفظًا مستعملاً بهذا المعنى في بحوث علمية وفي الصحافة والإعلام، وإن كان الأشهر هو لفظ “التغريب” فيما أخذ لفظ “الاستغراب” معنى دراسة الغرب برؤية شرقية.
ونحن في سلسلة المقالات التالية سنجري على استخدام الاستغراب بهذا المعنى المقصود من البحث وهو: دراسة الغرب برؤية ذاتية شرقية.
وفي المقال القادم نناقش: هل يصحُّ أن يكون “الإسلام” و”الغرب” متقابليْن؟! أم أنهما أمران لا يجوز المقابلة ولا المقارنة بينهما؟!
————————————–
[1] ابن منظور: لسان العرب 1/642، الفيروز آبادي: القاموس المحيط ص 154، الزبيدي: تاج العروس 3/474.
[2] مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب 1/18.
[3] مجلة الرسالة، العدد 240، بتاريخ 7/2/1938م.
[4] مجلة الرسالة، العدد 241، بتاريخ 14/2/1938م.
[5] مجلة الرسالة، العدد 831، بتاريخ 6/6/1949م.
[6] محمد البشير الإبراهيمي: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 4/161.
[7] انظر المقال في كتابه: أباطيل وأسمار 1/177 وما بعدها.
[8] مناع القطان: تاريخ التشريع الإسلامي، ص 399.
[9] عبد الرحمن حبنكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة ص 137.
[10] محمد الغزالي: ظلام من الغرب ص 148.
[11] محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة ص 580.
[12] من هذه الكتب: عشاق الحور، خضم المعركة، كلمات من النار، خط التحول التاريخي.
[13] د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي ص 36 وما بعدها.
[14] من هذه الكتب: فتاوى معاصرة (الجزء الثاني)، فقه الأولويات، الثقافة العربية الإسلامية، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، الإسلام والعلمانية، قضية تطبيق الشريعة.
[15] جب وماسينيون: وجهة العالم الإسلامي ص 42، 43.. وهنا أول ذكر للفظ الاستغراب، ولكنه ينتشر بعد هذا في الكتاب.
[16] عباس العقاد: ما يقال عن الإسلام، ضمن “موسوعة العقاد الإسلامية” 5/337.
[17] أبو الأعلى المودودي: الحجاب ص 119.
[18] د. عبد الله الشارف: أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، منشورات كلية الآداب بتطوان، 2000م.
[19] د. عبد الله الشارف: الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر، منشورات نادي الكتاب، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى 2003.
[20] د. محمود خليف حضير الحياني: الاستشراق والاستغراب ص 9.