لا تُطلق ألفاظ الشرق والغرب في بحوث العلوم الإنسانية إلا ويراد بها المعنى الثقافي الحضاري، ولا يخطر ببال أحد أن تكون تعبيرًا عن الاتجاه أو الموقع الجغرافي، فألفاظ الشرق والغرب وما يتفرع عنها من تصريفات تتضمن مدلولاً حضاريًا ثقافيًا يُفَرِّق بين حضارة الغرب – إن صحَّ أنها حضارة واحدة، وهو لا يصح – وما سواها من الحضارات التي لا يمكن اعتبارها حضارة واحدة بأي حال من الأحوال.
لكن الصراع القديم المستمر بين حضارة شرقية وأخرى غربية -بالمقياس الجغرافي- يمثل واحدًا من أهم معالم التاريخ الإنساني، إن لم يكن المـَعْلَم الأهم، فلذلك جرت العادة على اختزال هذا في كلمات من قبيل صراع الشرق والغرب، وفي إطار هذا الصراع – الذي امتدت حدوده شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا بما قضى على كل مقياس جغرافي- اكتسبت الألفاظ هذه المدلولات الثقافية الحضارية.
وموجز هذا أنه “كان في العالم – منذ زمن قديم – قوتان تصطرعان وتتنازعان السيادة إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، تمثل ذلك في الصراع بين الفرس والروم، ثم في الصراع بين المسلمين والروم، ثم في الصراع بين المسلمين والصليبيين، ثم في الصراع بين العثمانيين والأوروبيين مدًّا وجزرًا، ثم كان آخر فصول هذه الملحمة الصلات بين الشرق ممثلاً في أسيا وإفريقية، وبين الغرب ممثلاً في أوروبا وأمريكا” [1]، وإن “لعبة مقابلة الغرب الفاضل بالشرق الأقل فضيلة، بدأت منذ اليونان القدماء، الذين استخدموا الغرب ليعني اليونان الحرة، واستخدموا الشرق ليعني الاستبداد الفارسي” [2].
وفيما بقي لفظ “الغرب” ثابتًا أول الأمر فقد تعرضت لفظة “الشرق” في أعقاب الفتوحات الإسلامية لتغيير آخر في معناها أو إذا شئنا دقة أكثر؛ تعرضت لاتساع في نطاق مدلولها، فقد انطلق الفاتحون في ذلك الوقت من شبه الجزيرة العربية لا ناحية الشمال والشرق فحسب، بل إلى ناحية الغرب كذلك، وزحفوا في غضون عشرات من السنين إلى مصر وشمال إفريقية حتى بلغوا المحيط الأطلسي، واستوطن الإسلام قطاع بلدان شمال إفريقية دينا، وتعرب السكان تدريجيًا، وهم الأقباط في مصر والبربر في غربها، ومنذ ذلك الحين تعتبر مصر وبلدان شمال إفريقية ضمن الشرق، ويختص الاستشراق حتى بشمال غرب إفريقية الذي يسمى بالمغرب أي بلد غروب الشمس، وإن كان اسمه -الاستشراق- يفترض أنه يختص بالبلدان الشرقية دون غيرها، ومهما يكن من أمر فإن الاسم لا يبين بوضوح مستقيم المقصود منه بالضبط [3].
وعلى كل حال، فليس “استعمال كلمة الشرق في تاريخ الحضارة متفقًا مع معناها الجغرافي تمامًا، فإن بلدان الشرق الأدنى المتحضرة كان يجب تسميتها في روسيا بالجنوب، وكذلك أفريقيا الشمالية التي تعد جزءًا من الشرق الإسلامي، جنوبية بالنسبة إلى أوروبا، وابتدأ استعمال كلمة الشرق بمعنى البلاد المتحضرة مقابلاً للغرب في عصر الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن يوجد في نظر اليونان إلا الجنوب الحار المتحضر والشمال البارد موطن المتوحشين، وكانوا في تقسيمهم العالم إلى أقسامه المختلفة يسيرون على هذا الأساس نفسه، فيجعلون أوروبا شمالي أسيا وأفريقية معا” [4].
ثم تغير مدلول كلمة الغرب كذلك، فصار يعني “البلدان التي استوطنها الأوربيون، والسكان فيها يشكلون أكثرية واضحة من شعب من سلالة أوروبية، والثقافات والأفكار مشتقة إلى حد كبير من أوروبا… باختصار: أمريكا الشمالية وأوروبا واستراليا” [5].
واصطلاح الغرب نفسه بهذا المعنى “اصطلاح حديث جرينا فيه على ما اصطلح عليه الأوروبيون في عصور الاستعمار من تقسيم العالم إلى شرق وغرب، يعنون بالغرب أنفسهم، ويعنون بالشرق أهل أسيا وأفريقيا الذين كانوا موضع استعبادهم واستغلالهم، وجرينا نحن على هذا الاستعمال، والكلمة وإن كانت حديثة اصطلاحيًا واستعمالاً فهي قديمة في مفهومها ودلالتها “[6]، وقد “استخدم التعبير (الغرب، الحضارة الغربية) لأول مرة في الأزمنة الحديثة من الأمريكيين المحبين للإنجليز؛ ليؤكدوا اللغة المشتركة والحضارة المشتركة والمصالح المشتركة للولايات المتحدة والإمبراطورية البريطانية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى” [7]، وظل “طوال أكثر من مائة عام هو اللفظ المقبول عمومًا للثقافة وللواقع السياسي لأمريكا وأوروبا” [8].
وإذن، فثمة اتفاق عام بين الجميع على أن لفظ الشرق والغرب في بحوث الحضارة والتاريخ ليس معبرًا عن حقيقة جغرافية.
إلا أن الخلاف يبرز عند تحويل هذا المعنى الثقافي الحضاري إلى حيز جغرافي، فيُنظر إلى الغرب على أنه كتلة جغرافية وثقافية، وينظر إلى الشرق على أنه كتلة جغرافية وثقافية، ثم يمضي في مسار البحث واضعًا الشرق أمام الغرب بهذا المفهوم.
وقد كان يمكن ألا نتعرض لهذا الأمر في سياق بحثنا هذا لأن الخلاف حوله ضعيف والحجة فيه شديدة التهافت، لولا أن الذي اعتمد هذه القسمة هو حسن حنفي الذي صك مصطلح “الاستغراب” ونَظَّر له في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب”، وسيأتي معنا التعليق على الكتاب بعد قليل، لكن القصد أنه ليس من أحد ذي أهمية -في سياق بحثنا- قد تابعه على هذه الفكرة، بل سائر من كتب في هذا الشأن كان في العموم من الإسلاميين، وهم ينطلقون من رؤية إسلامية دينية، لا ترى أن الخلاف بين الشرق والغرب هو في كونهما كتلتين جغرافيتين ثقافيتين مختلفتين، بل الأمر على غير هذا تماما.
وموجز القول في هذه المسألة كالآتي:
لقد أنشأ الإسلام وضعًا جديدًا تمامًا، وقد انخلعت الأمة الإسلامية من إرثها القديم الذي لم يبقَ منه في أكثر الأحوال إلا شذرات غير مؤثرة، وصارت أمة إسلامية بصيغة جديدة لم تعد تقتصر على العرب ولا على الشرق وحده، بل نستطيع القول إن الغرب -بالمقياس الجغرافي- كان أحسن استقبالاً للإسلام إلى الحد الذي تخلت شعوب الشام وشمال أفريقيا عن لغاتها وتعربت فيما ظلت اللغة الفارسية وما وراءها من لغات الشرق حية حتى الآن، وبهذا انتهى معنى كلمة “الشرق” بمدلولها الجغرافي لتصير دالة على الشعوب المسلمة والحضارة الإسلامية في معظم الأحوال، حتى إن أمم الشرق البعيدة كالصين واليابان احتيج في وصفها لمزيد بيان فيُقال “الشرق الأقصى أو الأبعد”، ومن هنا فلا يجوز قياس الأمر جُغْرافيًّا.
كذلك فإن النظرة الإسلامية نظرة دينية تقيس على الهداية والضلال لا على الشرق والغرب، فالجاهليات القديمة في الشرق أو في الغرب هي جاهليات، بل إن الغرب أقرب إلى الإسلام لأنهم من أهل الكتاب، ولقد كانت عاطفة المسلمين مع الروم ضد الفرس منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية.
ومما يثبت خطأ النظرة الجغرافية أن الإسلام والمسيحية واليهودية جميعهم ولدوا في الشرق، فلو أنه مجرد تقسيم جغرافي لكان الصراع الحضاري القائم هو صراع “الأديان الثلاثة” في جانب مع الغرب “الملحد، الوثني، العلماني” في جانب آخر، لكن هذا ليس صحيحًا، بل لقد ساد الإسلام على الشرق، وسادت المسيحية على الغرب، ورأى الغربيون عبر تاريخهم الوسيط والحديث أنهم مكلفون بـتحرير قبر المسيح (الموجود في الشرق) ولم يعتبروا أنه مجرد تراث شرقي قديم لا يعبر عنهم ولا يؤثر فيهم. وأدلُّ من هذا على ما نقول: أن الجيوش الأوروبية “العلمانية” (زعموا!) حين انتصرت في الشام اعْتُبِر هذا النصر في أوروبا “نهاية الحملات الصليبية” وحظي القائد البريطاني (اللنبي) بالكثير من الألقاب الصليبية الفاخرة في الصحف والمطبوعات [9]، وحتى قبل سنين خلت كان زعيم أمريكا يدشن حربه على “الإرهاب” فانفلت لسانه وقال عنها “حملة صليبية”!
ولقد كانت هذه هي نظرة الشرق أيضًا للصراع القائم إلى قبل أن يهل علينا أمثال حسن حنفي، وذلك قبل أن يثمر الغزو الفكري ومؤسسات الاحتلال في بلادنا، ففي ذلك الوقت كان تعريف المسألة الشرقية هو أنها “مسألة النزاع المستمر بين المسيحية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة القائمة بأمر الإسلام وبين الدول المسيحية”[10].
ولقد كان المكان الواحد يعتبر شرقًا إذا كان تحت حكم المسلمين، فإذا انتقل إلى حكم أوروبا صار من الغرب، وهذا واضح في المؤلفات التاريخية والحضارية لدى المسلمين والغربيين معًا، فمناطق الأندلس وصقلية وجنوب فرنسا وشرق أوروبا تُعَدُّ من الشرق إذا كانت من بلاد المسلمين، فإذا أزيح المسلمون عنها صارت من الغرب.
على أنه إن كان يستقيم للأوروبيين -بنوع من التجاوز والتنزل- أن يسموا دراستهم للشرق استشراقًا باعتباره يشملنا ويشمل معنا الهند والصين واليابان، فإن هذا “الاستشراق” لا يشابه ولا ينبغي أن يشابه “الاستغراب” الذي نقصده، فنحن قومٌ وسطٌ بأكثر من معنى بما فيه هذا المعنى الجغرافي، نحن مكلفون بأن ندعو شرقنا وغربنا وشمالنا وجنوبنا، وإذا كان العالم يصطلح على قول “الشرق” و”الغرب” وإذا اضطررنا لاستعمال اللفظ، فيجب أن ننتبه إلى تحرره لدينا من المعنى “الجغرافي” إلى المعنى “الثقافي”؛ فالإسلام هو المركز والمسلمون هم قلب العالم، ولئن كان استغراقنا الآن في “الاستغراب” فإنما هو لضغط الواقع؛ إذ الصراع القائم هو بيننا وبين الغرب بالمعنى الثقافي والجغرافي معًا، ولكننا مكلفون بدراسة ودعوة شرقنا وغربنا في كل وقت.
وهذه الدراسة تركز على الغرب بهذا المعنى الثقافي أولاً، وبهذا يتضح أننا نخالف قول من جعلوا الشرق “ككتلة جغرافية وثقافية وحضارية” في مقابل الغرب “ككتلة جغرافية وثقافية وحضارية”، فتلك قسمة لا يقرها الإسلام.
————————————-
[1] محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص7.
[2] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص18.
[3] رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص11، 12.
[4] ف بارتولد: تاريخ الحضارة الإسلامية ص35.
[5] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص17.
[6] محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص7.
[7] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص42.
[8] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص18.
[9] Stefan Goebel: The Great War and Medival Memory, p.115
[10] مصطفى كامل باشا: المسألة الشرقية، ضمن “مصطفى كامل باشا في 34 ربيعا” 7/3.