ثمة اتفاق بين من نادوا بعلم الاستغراب في بلادنا على أنه ضد التغريب، وأنه يجب أن يكون مبنيًا على رؤيتنا الذاتية ومن منظورنا الحضاري، وتأسيسًا على هذا فلا يصلح للاستغراب أحد هؤلاء:
1. من اتخذ الغرب إمامًا، بل هؤلاء هم خصومه الذين يُقصدون بالمواجهة، ومن هنا فيخرج من حد الاستغراب من هو مثل سلامة موسى الذي كان من المؤمنين بالغرب الكافرين بالشرق – حسب تعبيره – المعارضين لكل كفاح ضد الإنجليز في مصر، والذي لما كتب كتابه “هؤلاء علموني” لم نجد فيهم إلا الغربيين وغاندي وتولستوي! وكذلك أمثال طه حسين [1] الذي لم يُحاول حتى التخفيف من عباراته، وصرح بأن انتماء مصر هو للبحر المتوسط لا للشرق، وأننا لن نتقدم إلا إذا تقفينا آثار أوروبا بكل ما فيها “حلوها ومرها، ما نحب وما نكره”، ونهى بصراحة عن مجرد التفكير في التراجع عن هذا السبيل، لأن التراجع غير ممكن! يقول “لقد التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كله أمام أوروبا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال [2] ومعاهدة إلغاء الامتيازات [3] إلا التزامًا صريحًا قاطعا أمام العالم المتحضر بأن نسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟ فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولوجدنا أمامنا عقابًا لا تُجاز ولا تُذلل، عقابًا نقيمها نحن وعقابًا تقيمها أوروبا، لأننا عاهدناها على أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة” [4].
وقد كفانا أولئك القوم مؤونة الأمر إذ تصدوا بأنفسهم للاستغراب، فما إن ظهرت هذه الدعوة حتى سخروا منها، وكتب هاشم صالح – تلميذ محمد أركون، والقائم على مشروعه – مستهزءًا: “كيـف يمكن لهذا ’العلم‘ الغريب الشكل أن ينهض على أسس قويمة إذا كنّا عاجزين حتى الآن عن استيعاب الثورات اللاهوتية والابستمولوجية (المعرفية) والفلسفية للفكر الغربي، وإذا كنّا عاجزين عن إحداث مثلها في ساحة الفكر العربي؟ وكيف يمكن لنا أن نقف موقف الندّ من الغرب إذا كنّا لا نملك أبسط المقومات حتى مشروع الترجمة لم نقم به كما ينبغي” [5]، وليس هذا بالغريب على مثله، فالرجل قد بلغ من الصراحة -أو الوقاحة – حدَّ أن اعتبر الهجمة على الإسلام بعد أحداث سبتمبر 2001 “فرصة ذهبية”، ودعا إلى تأسيس كليات تحارب الدين قبل كليات تعلم الكيمياء، فقال: “فبمواجهة كل كلية شريعة أو معهد ديني ينبغي أن نؤسس كليات لتدريس تاريخ الأديان المقارن، أو علم الاجتماع الديني، هذا أهم من تدريس الكيمياء أو الفيزياء، أو قل: إن له الأولوية حاليًا .. إننا يجب أن نلتحق بفولتير وتصوره الطبيعي عن الدين والأخلاق، فالدين الحقيقي هو الدين الطبيعي” [6].
2. كذلك يخرج عن حد الاستغراب من لا يؤمن أننا نملك من الذاتية والخصوصية ما يُمكِّننا الآن وفي كل وقت من دراسة الغرب ونقده، حتى وإن كان يؤمن بأن ذلك ممكن في وقت آخر إذا بلغنا قدرًا من التقدم والتطور، ومن هؤلاء الدكتور حامد أبو أحمد أستاذ اللغة الإسبانية وقد قال: “قيام علم الاستغراب يحتاج إلى أن يكون لدينا فكر يستطيع مواجهة الفكر الغربي الحديث؛ لكن للأاسف نحن لم نصل بعد إلى المستوى الأوروبي ولم نقف بعد في مصاف ما ينتج هناك؛ ففي مجال الفكر مازلنا عالة على الغرب” [7].
فهذا التصور قائم على افتراض أن نتبع الغرب ونسرع في اتباعه حتى نكون له أندادًا ونتجاوزه ثم – حينئذ – نتمكن من نقده، ذلك أن الأساس الذي يقوم عليه “الاستغراب” هو الإيمان بإمكانية ذلك في كل وقت اعتمادًا على خصوصيتنا وذاتيتنا لا على مستوى تقدمنا التقني المادي، ويبدو ذلك الفارق واضحًا حين نرى المستشرق الألماني رودي بارت ينادي على العرب أن يكون لهم دراسات في الاستغراب [8]، قبل نحو نصف قرن من الزمن الذي رأى فيه بعض أهلنا أننا لم نتأهل لذلك بعد!
ونحن إذ نكتب في “التأصيل الإسلامي” لعلم الاستغراب، فإن التأسيس الإسلامي لهذا العلم يضع حدًا آخر للاستغراب والمستغرب، فعلى هذا التأسيس يخرج من حد الاستغراب:
3. من درس الغرب منطلقًا من نموذج غير إسلامي، سواء أكان هذا أحد النماذج الفلسفية الغربية أو الشرقية أو القديمة، فطالما لم يكن الإسلام مرجعيته، فهو خارج عما نعنيه في هذا البحث بالاستغراب والمستغرب.
هذه الحدود الثلاثة تُبقي لنا في تعريف المستغرب: “من له دراسات أصيلة في الغرب – أو موضوع متعلق به – على قاعدة من الاعتزاز الذاتي بنفسه وحضارته الإسلامية”.
ونواصل بيان ذلك في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
————————————-
[1] ثمة معلومات أشار إليها غير واحد من الباحثين -ويراها الأكثرون غير دالة ولا كافية- بأن طه حسين قد تاب في آخر أيامه وتراجع عن أهم ما صدر منه من أفكار، منهم د. محمد محمد حسين (أزمة العصر ص76) والشيخ محمود شاكر (أباطيل وأسمار 1/31، المتنبي ص31) ود. محمد عمارة في مقالات نشرها قبل عشر سنوات وجمعها في كتابه الذي صدر قبل أيام (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، وقد حدثني الشيخ عبد السلام البسيوني في إحدى ليالي صيف 2014م في الدوحة بأنه التقى سكرتير طه حسين الذي أكد له وقوع هذه التوبة. ونحن وإن كان يسعدنا توبة كل إنسان، إلا أننا نتحدث عن إرث طه حسين وما بقي منه وما اشتهر عنه.
[2] يقصد معاهدة (1936م)، والتي حصلت بها مصر على استقلال صوري في الحقيقة.
[3] يقصد اتفاقية مونتريه (1937م) التي قضت بإلغاء المحاكم المختلطة -التي هي على الحقيقة محاكم أجنبية لا سيادة للدولة عليها- في مصر بعد 12 عاما أي (1949م).
[4] طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر ص 34.
[5] هاشم صالح: الحياة الدولية بتاريخ 13/4/1995. (نقلا عن د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص 19)
[6] هاشم صالح: الشرق الأوسط بتاريخ 13/12/2001. (نقلا عن د. محمد عمارة: في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام ص 104)
[7] الشرق الأوسط بتاريخ 30/11/2001م.
[8] رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص 13.