ذكرنا في المقال الماضي ما نعنيه بالرؤية الإسلامية لعلم الاستغراب، وخلصنا إلى أن ما نرضاه من تعريف المستغرب هو: “من له دراسات أصيلة في الغرب -أو موضوع متعلق به- على قاعدة من الاعتزاز الذاتي بنفسه وحضارته الإسلامية”.
فأما وجود الدراسات فدليل على الثقة بالنفس والإقدام على التقييم وهو يناقض الهزيمة النفسية، وأما الأصالة فلئلا يدخل فيها الخواطر والمقالات ومذكرات السفر والسياحة، وأما تعلقها بالغرب فهذا هو موضوع العلم، وأما الاعتزاز بنفسه فآية ذلك ما يظهر في معالجته لنقاط الاشتباك والفوارق المؤثرة والموضوعات الشائكة مثل: الدين والدولة، وسؤال التقدم والتخلف، والإسلام والعلمانية، وحدود الحرية… ونحو هذا.
وهذا التعريف يثير بضع أسئلة:
الأول: هل يمكن لغير المسلم أن يدخل تحت هذا التعريف وهو لا يؤمن بالإسلام دينًا؟ والجواب: إن الإسلام يمثل الذات الحضارية للمسلم وغير المسلم، وفي العالم الإسلامي كثير من غير المسلمين يعتزون بانتمائهم الحضاري للإسلام، وقد تشربوا عبر هذه القرون معظم الأعراف والعادات الإسلامية حتى صار تكوينهم النفسي والفكري إسلاميًا، وإن لم يعتنقوا الإسلام دينًا؛ فمن هنا لا إشكال في أن يحقق غير المسلم هذا التعريف للمستغرب.
الثاني: ما حال من تنقل بين المذاهب والأفكار، وله إنتاج مختلف الميول والتوجهات عن الغرب؟ والجواب: الاستفادة من إنتاجه كله أمر قائم في كل وقت، بل نحن نطرح أن يُستفاد في دراسة الغرب مما كتبه غربيون، ولكن يُنظَر في إنتاجه، ثم لا يُعتبر من “الاستغراب” إلا ما كتبه إذ كان على منهج دراسة الغرب برؤية ذاتية حضارية إسلامية، فأما غير هذا فلا يحقق الشرط.
الثالث: ما حال من يُنازَع في أن منهجه إسلامي، فهو يدعي هذا لنفسه ولا يُقِّره غيره؟ والجواب: أن حدَّ المنهج هو حد الإسلام نفسه، فما دام الباحث لا يعلن انتماء آخر له غير الإسلام كالعلمانية – بفروعها: الماركسية، الليبرالية، اليسارية.. إلخ – فالأصل أنه إسلامي المنهج، إلا أن يعلن ما ينقض أصلاً من أصول الشريعة أو يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة بلا تأويل أو بتأويل غير سائغ، ولا ريب أن القرائن والأحوال ترجح ما قد يخفى ويقع فيه اللبس والتنازع.
وعليه فإن حدَّ الاستغراب كما نراه هو “دراسة الغرب – أو موضوع متعلق به – دراسة أصيلة، انطلاقًا من المرجعية الإسلامية “[1].
ولا نرى بأسًا في أن يكون تعريف الاستغراب هو مقلوب تعريف الاستشراق – وللاستشراق تعريفات كثيرة مشتهرة – من الشرق إلى الغرب، مع إضافة قيد “المرجعية الإسلامية”، لكن التعريفات تدور حول هذا المعنى.
وتعدُّ دعوة المستشرق الألماني رودي بارت أول ما وجدناه صريحًا في الدعوة إلى علم الاستغراب [2]، وقد صدرت ترجمته العربية عام 1967م، ولم أفلح في الوصول لزمن صدور طبعته في الألمانية أو الإنجليزية، ومن المثير للتأمل أن المستشرق المتعاطف مع المسلمين رأى فيهم القدرة على هذا قبل أن يراه كثير من “نخبتهم”!
وأشار د. أحمد سمايلوفيتش في كتابه القيم “فلسفة الاستشراق” [3] إلى هذا الموضوع، واستدرك على رودي بارت أنه لم ينتبه – هو ولا غيره – إلى المحاولات الرائدة للطهطاوي ومحمد عبده وشكيب أرسلان والعقاد ومالك بن نبي في هذا المجال، واختار تعريفًا للمستغرب يقول: “هو الذي تبحر من أهل الشرق في إحدى لغات الغرب وآدابها وحضارتها” [4].
ثم، وبعد حوالي خمسة عشر عامًا، جاء كتاب حسن حنفي “مقدمة في علم الاستغراب”، إلا أن الكتاب – لكونه يمسّ حاجة قائمة، ولكون صاحبه من النخبة المشهورة – قد حظي باهتمام كبير، ومن بعد هذا الكتاب صار الموضوع يُثار على نطاق واسع في الملتقيات والندوات والمقالات في المجلات العلمية والصحافة السيارة، حتى صار طبيعيًا ومعتادًا أن تقرأ هذه الدعوة في توصيات كل مؤتمر أو في كلمته الافتتاحية أو بحد أدنى في أحد الأوراق المقدمة إليه.
لكن هذه الرغبة لم تتحول إلى خطط عملية بعد، رغم أن بعض الأساتذة بذلوا مجهودًا في وضع خطة لعلم الاستغراب منذ وقت مبكر، منهم د. السيد محمد الشاهد الذي قدم خطته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (1989م)، ونشر موجزًا لها في صحيفة “مرآة الجامعة”، ثم في مجلة (المسلمون) [5].
وفي كل ما اطلعنا عليه من هذه المقالات والمؤتمرات لا يخرج الكلام عن ضرورة دراسة الغرب بالمعنى المتبادر إلى الذهن، إلا أن حسن حنفي حاول توسيع العلم فقال إن علم الاستغراب ليس قاصرًا على دراسة الغرب، بل هو “في حقيقة الأمر تحليل الثقافة الوطنية ووصف تفاعل الجبهات الثلاثة فيها: التراث القديم، التراث الغربي، الواقع المباشر” [6]، ولئن كنا لا ننكر أن هذه الأشياء من لوازم الخوض في دراسة الغرب، إلا أنها ليست منه، بل نراها توسيعًا لهذا العلم يعسر معها انضباطه وتحديد إطاره، وما نراه قال هذا إلا ليمنع كل دراسة من قبله أو من بعده لا تتفق مع منهجه من أن تسمى استغرابًا كما يبدو في سياق الكلام، بل نذهب إلى أن كل ما هو دراسة للغرب من قبلنا هو “استغراب” وإن لم يقصد إلى هدف آخر نظري أو عملي، على أنه لا يكاد يوجد دراسة بغير هدف أو بغير أثر عملي.. إلا أن استهداف هذا شيء، ووجوده عرضًا شيء آخر.
ومن هنا نبدأ في إلقاء الضوء على المحاولات الأولى لدراسة الغرب، والتي يجوز أن نسميها بواكير الاستغراب أو طلائع الاستغراب أو الاستغراب المبكر.
————————————
[1] هذا التعريف هو أخصر ما استطعناه مما يعبر عن المعنى الذي أردناه، مع الاعتراف بأن وضع تعريف جامع مانع يكاد يكون من مستحيلات العلوم الإنسانية، فكيف إذا كان التعريف لعلم لم ينشأ بعد؟!
[2] رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص13. وقد أشار رودي بارت إلى دعوة محمد رحباء التي جاءت في مؤتمر العالم الإسلامي (لاهور: ديسمبر 1957، يناير 1958م) لدراسة الغرب دراسة موضوعية، ولكن مجرد وجود الدعوة مبذول من قبل ذلك بكثير كما سنرى في المبحث التالي “الرواد الأوائل”، بينما تعد أولية بارت في تسميته لهذه الدراسة بـ “علم الاستغراب”.
[3] وأصل الكتاب رسالة دكتوراة نوقشت عام 1974م، بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر.
[4] د. أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق ص36، 37.
[5] د. السيد محمد الشاهد، مرآة الجامعة بتاريخ 20 جمادى الأولى 1410هـ (19/12/1989م). ود. السيد محمد الشاهد، جريدة المسلمون بتاريخ 11- 17 رمضان 1410هـ، 6- 12 أبريل 1990م. (نقلا عن: د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص14)
[6] حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص55.