ترجمة وتحرير نون بوست
وفقاً لتقييم صادر عن المكتب الخامس (MI5) لمخابرات المملكة المتحدة، فإن برنامج التسليم السري ما بين المملكة المتحدة وليبيا، والذي تضمن اختطاف زعيمين من زعماء المعارضة الليبية ونقلهما جواً مع عائلاتهما وتسليمهما إلى نظام القذافي في طرابلس، كان له تأثير معزز وداعم لتنظيم القاعدة في تلك الفترة.
ففي تسعينيات القرن الماضي عمد عبد الحكيم بلحاج وسامي الساعدي إلى تأسيس الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة، والتي كانت تهدف للإطاحة بحكم العقيد القذافي، ولكن نتيجة لاتفاقية تسليم سرية ما بين المملكة المتحدة وليبيا، عمدت المخابرات البريطانية عن طريق المكتب السادس (MI6) إلى اعتقال بلحاج والساعدي في تايلاند وهونغ كونغ بتاريخ مارس 2004، وتم نقلهما إلى طرابلس مع زوجة بلحاج الحامل، وزوجة الساعدي وأطفاله الأربعة، وحينها تم تسليمهم جميعاً إلى نظام القذافي، مما أدى –حسب تقييم مخابرات المملكة المتحدة- إلى تحوّل قيادة الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية لأشخاص آخرين عمدوا إلى جعل هذا التنظيم أكثر قرباً من تنظيم القاعدة.
بعد الاعتقال والتسليم عمدت المخابرات البريطانية إلى فتح تحقيقات واسعة حول الموضوع، وتضمنت التحقيقات تقييماً لهذه العملية الاستخباراتية تم بعد 11 شهراً من حصولها، وخلص التقرير الذي قام به المكتب الخامس لمخابرات المملكة المتحدة (MI5) إلى أن القبض على بلحاج والساعدي أدى إلى إثارة “حالة من الفوضى في صفوف الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة”، وأضاف التقييم: “إن بلحاج والساعدي كانا من الأعضاء البارزين في الجماعة وعملا للحفاظ على استقلالها، وتزويدها بهيكل قيادي متين وأهداف واضحة ودقيقة، أما الآن فإن المجموعة تعمل تحت ضغط التأثيرات الخارجية”، وذكر التقييم حينها أن الأعضاء الذين استلموا زمام أمور الجماعة بعد اعتقال بلحاج والساعدي، وعلى وجه الخصوص أبو ليث الليبي وعبد الله الغفار، دفعا المجموعة لاعتناق أجندة إسلامية مستوحاة من فكر تنظيم القاعدة.
وفعلاً بعد عامين من صدور هذا التقييم، أعلن أبو ليث الليبي انضمام الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة رسمياً الى تنظيم القاعدة، حيث أصبح الليبي عضواً بارزاً في التنظيم، ويُعتقد أنه كان خلف بعض الهجمات الانتحارية التي تمت في أفغانستان، بما في ذلك تفجير قاعدة باجرام الجوية (شمال كابول) في عام 2007 والذي أسفر عن مقتل 23 شخصاً وذلك خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي حينها ديك تشيني، وبالمحصلة تمت تصفية أبو ليث الليبي بعد سنة من هذه الحادثة عن طريق غارة بطائرة من دون طيار.
تم الكشف عن وجود هذا التقييم السري مع مئات الملفات الليبية – البريطانية الحساسة للغاية، في المباني الرسمية الليبية عقب استيلاء الثوار عليها نتيجة للثورة الليبية لعام 2011، والتي أدت إلى الإطاحة بحكم معمر القذافي وقتله في نهاية المطاف، وقد عجّلت الضربات الجوية التي قام بها حلف شمال الأطلسي (الناتو) بإنهاء حكم الدكتاتورية الذي استمر لمدة 42 عاماً، حيث أعقب قتل القذافي فترة قصيرة من التفاؤل، عبّر عنها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بقوله “إنه لشيء رائع أن أكون هنا في بنغازي الحرة وفي ليبيا الحرة” مخاطباً بذلك الحشد الليبي الغفير في بنغازي في سبتمبر 2011، أثناء زيارته والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لـ ليببا عقب سقوط القذافي.
ولكن التفاؤل الليبي لم يستمر طويلاً، كون القيادة الليبية الجديدة التي كافحت لفرض سلطتها على البلاد لم تستطع الوصول بها إلى بر الأمان، ومنذ ذلك الحين، انحدرت البلاد إلى دوامة من العنف ودخلت في أزمة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، حيث عمدت الميليشيات المتناحرة التي تسعى لمد نفوذها إلى قصف المناطق السكنية وتدمير البنية التحتية في البلاد، ومؤخراً، ظهرت مخاوف تشير إلى إمكانية سيطرة المتشددين الإسلاميين على الفراغ السلطوي في ليبيا، خاصة بعد تفجير الفندق في طرابلس يوم الثلاثاء الماضي، والذي أسفر عن قتل خمسة حراس وخمسة أجانب، حيث أعلن مسلحون يدّعون انتماءهم للدولة الإسلامية عن مسؤوليتهم عن هذا الهجوم.
إن الأوراق السرية التي تم استردادها من المباني الرسمية الليبية أثناء الثورة، أوضحت اشتراك وكالات الاستخبارات البريطانية مع حكومة القذافي في سلسلة من العمليات الإستخباراتية المشتركة، وأشارت أن بعض المعلومات التي تم الاستحصال عليها من الأشخاص الذين تم تسليمهم لحكومة القذافي، كانت تستخدم كأدلة خلال إجراءات ضبط النظام والترحيل في المحاكم البريطانية، وتبيّن أيضاً أنه في عام 2006، دُعي عملاء من المخابرات الليبية للعمل على الأراضي البريطانية، حيث عملوا بمساعدة من المكتب الخامس لمخابرات المملكة المتحدة (MI5)، على تهديد عدد من معارضي القذافي الذين استحصلوا على حق اللجوء السياسي في المملكة المتحدة.
كما تشير إحدى الوثائق التي تم كشفها الأسبوع الماضي، أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بعث برسالة إلى القذافي في أبريل من عام 2007، واستهلها بعبارة “عزيزي معمر”، حيث أعرب بلير فيها عن أسفه لفشل الحكومة البريطانية في محاولاتها لترحيل عدد من معارضي القذافي من المملكة المتحدة، وعبّر بلير عن امتناته لوكالات الاستخبارات الليبية التابعة للديكتاتور القذافي لتعاونها الممتاز مع المخابرات البريطانية.
تم إعداد الوثيقة التي تتضمن تقييم العملية السرية التي تم فيها تسليم بلحاج والساعدي، قبل زيارة كبار موظفي وكالة الاستخبارات البريطانية إلى طرابلس لمدة خمسة أيام في فبراير 2005، وتم تصنيفها تحت عنوان “لاهتمام المملكة المتحدة وليبيا فقط – وثيقة سرية”، وبيّنت هذه الوثيقة أن أعضاء من الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة سُمح لهم بالسكن في المملكة المتحدة في تسعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كانت الحكومة البريطانية تصنف فيه القذافي كعدو لبريطانيا.
وتضيف الوثيقة أنه تمت إعادة تقييم أعضاء الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة والذين يقطنون في المملكة المتحدة، وذلك في أعقاب التغيير في قيادة الجماعة والتي نتجت عن اعتقال بلحاج والسعدي وتسليمهما إلى نظام القذافي، وذكرت الوثيقة “نحن نحقق بنشاط الأفراد الرئيسيين في المملكة المتحدة والذين يسعون لتعطيل أنشطتها”، وأضافت “هذا العمل هو جزء من إستراتيجية جديدة لمواجهة تهديد الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة تجاه المملكة المتحدة وحلفائها”، حيث تم اعتبار نظام الديكتاتور الليبي منذ عام 2005 من حلفاء المملكة المتحدة.
إضافة لما تقدم فقد تضمنت هذه الوثيقة التي تم الكشف عنها في الأسبوع الماضي عدداً من الأسئلة التي وضعها المكتب الخامس لمخابرات المملكة المتحدة (MI5)، والتي أرادت الإستخبارات البريطانية أن يتم طرحها على بلحاج والسعدي من قِبل المحققين الليبيين، حيث تم إرسال أكثر 1600 سؤال من المملكة المتحدة إلى طرابلس على أربع دفعات، وتضمت إحدى الرسائل شكراً مقدماً من المكتب السادس لمخابرات المملكة المتحدة (MI6) للمخابرات الليبية لتفضلها بالموافقة على تمرير الأسئلة إلى فريق التحقيق.
من جهة أخرى صرّح بلحاج والسعدي سابقاً بأنهما تعرضا للضرب والجلد والصعق بالصدمات الكهربائية والحرمان من النوم والتهديد أثناء احتجازهما في سجن تاجوراء قرب طرابلس، وأضاف بلحاج إنه تم استجوابه لأكثر من مرة من قِبل ضباط في المخابرات البريطانية، وحاول حينها أن يوضّح لهم -من خلال لغة الإشارة- أنه تعرض للتعذيب، وعقب إحدى اللقاءات، يشير بلحاج إنه وافق على التوقيع على اعتراف حول رفاقه في المملكة المتحدة، لتجنب التعرض لأحد أشكال التعذيب التي تدعى “هوندا”، والتي تشمل حبس السجين في غرفة مربعة الشكل ذات سقف وجدران متحركة تعمل على الضغط على السجين لانتزاع الاعترافات منه.
تسبب الكشف عن وجود وثائق تشير إلى عمليات التسليم البريطانية- الليبية، بالفزع على نطاق واسع في بريطانيا، حتى قبل ظهور التقرير الأخير الذي يتضمن عملية التقييم، وضمن المعطيات الحالية يصبح من الواضح أن المملكة المتحدة عملت في ذلك الوقت على تعزيز قوة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة والتي انضمت فيما بعد لتنظيم القاعدة، وهي المنظمة الإرهابية التي تشكّل أكبر تهديد على أمن المملكة المتحدة، وذلك من خلال اعتقال وتسليم بلحاج والساعدي اللذان كانا من الممكن أن يضمنا عدم استيلاء تنظيم القاعدة على الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة.
جرّاء هذه الأحداث عمد دومينيك جريف النائب العام البريطاني في يناير 2012، إلى تفويض رئيس شرطة العاصمة برنارد هوغان هوي لإجراء تحقيق جنائي في هذه القضية، حيث تم فتح تحقيق استمر لمدة ثلاث سنوات سمي باسم “عملية لايد”، وكان جاك سترو- وزير الخارجية البريطاني السابق- من بين الأشخاص الذين تم استجوابهم من قبل الشرطة خلال مجرى التحقيق، حيث أشار مكتبه أنه جرى التحقيق معه كشاهد على القضية، وسَلّمت المباحث خلاصة تقريرها إلى النيابة العامة في الشهر الماضي.
أخيراً، فإن عمليات التسليم السرية أدت أيضاً إلى فتح ملفات للمطالبة بتعويض الأضرار، حيث عمد الساعدي إلى رفع دعوى على الحكومة البريطانية استحصل من خلالها على مبلغ 2.2 مليون جنيه استرليني كتعويض من الحكومة البريطانية، كما عمد بلحاج إلى الإدعاء بالأضرار أصالة عن نفسه وبالنيابة عن زوجته، حيث أشار إلى إنه تم اعتقاله وإياها عندما كانت حاملاً في الشهر الرابع، وتم تعليقها شاقولياً بوضعية منقلبة “من القدم إلى الرأس” في الرحلة الجوية التي استمرت لـ 17 ساعة إلى طرابلس، قبل أن يتم تسليمها إلى السلطات الليبية وسجنها لعدة أشهر، ويشير بلحاج إلى استعداده لإسقاط دعواه مقابل 3 جنيه استرليني فقط، في حال استحصاله هو وزوجته على اعتذار رسمي من قِبل الحكومة البريطانية، إلا أنه من غير المرجح حصول هذه التسوية في ظل دراسة هيئة الادعاء الملكية لملف التحقيق حول القضية المقدم من قِبل شرطة العاصمة الشهر الماضي.
المصدر: الغارديان