استطاعت الحملة الفرنسية أن تحتل القاهرة وأجزاء من الشام، وظهر واضحًا العجز الإسلامي – سواء المملوكي أو العثماني – عن صدهم، ولم يخرج الفرنسيون من مصر إلا بالتعاون مع أعداء آخرين وهم الإنجليز.
منذ تلك اللحظة [1] وصار الغرب حاضرًا في الذهن الإسلامي، انبعث سؤال لماذا وكيف انتصروا؟ ولماذا وكيف انهزمنا؟ وكيف السبيل لئلا تتكرر الهزيمة؟ وكل هذه الأسئلة كانت تعني بحثًا وتفتيشًا في الغرب عن إجاباتها.
ومنذ اللحظة الأولى نرى الجبرتي – المؤرخ المعاصر للحملة الفرنسية – يحلل الخطاب الأول لنابليون فيقف عند جملته الأولى “بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد، ولا شريك في ملكه” ليحللها فيقول: “في ذكر هذه الجمل الثلاث إشارة إلى أنهم موافقون للملل الثلاث ومخالفون لهم، بل ولجميع الملل، موافقون للمسلمين في ذكر التسمية ونفي الولد والشريك ومخالفون لهم في عدم الإتيان بالشهادتين وجحد الرسالة، ورفض الأقوال والأفعال الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة، وموافقون للنصارى في غالب أقوالهم وأفعالهم ومخالفون لهم في القول بالتثليث وجحد الرسالة أيضًا ورفض ديانتهم وقتل القسوس وهدم الكنائس، وموافقون لليهود في التوحيد فإن اليهود لا تقول بالتثليث وإنما هم مجسِّمة مخالفون لهم في دياناتهم، والذي تحرر من عقائدهم أنهم لا يتفقون على دين ولا يتفقون على ملة بل كل واحد منهم ينحو دينًا يخترعه بتحسين عقله، ومنهم الباقي على نصرانيته المتكتم لها، وفيهم فِرَقٌ من اليهود الحقيقيين، لكن كل ذي دين منهم ما نزله مُصِرٌّ عليه، موافق للجمهور في ضلالهم المصرين عليه” [2].
وعبر أكثر من قرنين من الزمان، هما عمر الاحتلال والهيمنة الغربية، لم يغِب الغرب يومًا عن بال المصلحين والعلماء، فليس ثمة واحد منهم ليس له في الغرب رأي أو آراء أو مؤلفات تقصر أو تطول، وكثير من هؤلاء كانت له في الغرب رحلات على اختلاف الأسباب: إما نفي وطرد أو عمل ودعوة أو حتى حاجة المعيشة، فمن هنا بدأت بواكير الاستغراب وطلائعه الأولى.
ونحن نجري في اختيارهم على المعيار الذي حددناه في المبحث السابق: من كانت له دراسة أصيلة للغرب على أساس المرجعية الإسلامية [3]، والتي غالبًا ما تكون ظاهرة وواضحة ولا يحتاج تلمسها إلى كبير مجهود.
وقد كانت أول الكتابات الإسلامية في شأن الغرب هي كتب رحلات، واستمر هذا طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم نزل الغرب بجيوشه وأخذ في احتلال بلادنا منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وجرى تحت ظل الاحتلال إنشاء نخبة ثقافية متعلقة بالغرب اتباعًا وانبهارًا، ووُضِع هؤلاء في ظل منظومة تجعلهم أصحاب التوجيه الفكري والثقافي، ثم ظل هؤلاء بعد خروج الجيوش من أرضنا في ذات مواقعهم، فحدث بهم الانقطاع الثقافي الكبير الذي أنشأ التغريب [4]. ومن ثَمَّ لم يعد يمثل طلائع الاستغراب – بالمعنى الذي حددناه – إلا نفر قليل اجتهدوا بأنفسهم أو وفرت لهم ظروف خاصة إمكانية دراسة الغرب، أو نفر بدأوا حياتهم منبهرين ثم رجعوا وعادوا فنقدوا الغرب من بعد ما انبهروا، ونظروا إليه بعينٍ غير عين الاتباع.
هؤلاء الطلائع وإن كانوا قلة بالنسبة لمجموع الأمة، إلا أنهم كثرة تستعصي على الحصر، وهم موجودون في كل مجال علمي: السياسة والأدب والجغرافيا والتاريخ والاجتماع والاقتصاد واللغة والقانون والفلسفة والفنون وغيرها، ولذا فلا حيلة لنا في هذا المقام سوى أن نعرِّف بأبرزهم وأبرز مؤلفاتهم.
وقد اخترنا من بينهم الثلاثة الأوائل: رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، وأحمد فارس الشدياق، فلقد عاش ثلاثتهم الصدمة الأولى مع الغرب، وكانت لهم جميعًا رحلات إلى الغرب وإجادة لبعض لغاته، وقد سجلوا رحلاتهم وآرائهم في مؤلفات رائدة كذلك.
وهذا ما نتعرض له إن شاء الله في المقالات القادمة.
———————————————————————–
[1] هذه اللحظة هي بالنسبة إلى العرب لا إلى كل المسلمين، ونحن قد اضطررنا إلى اختيار هذه اللحظة لقلة المصادر المتوفرة حول المؤلفات الأولى التركية، فقد كان الأتراك أسبق في محاولة التعرف على الغرب من خلال الصراعات المشتعلة بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، وفيما أتيح لنا الوصول إليه من مصادر لم نجد ما يشفي الغليل في هذا الباب، اللهم إلا ما كتبه برنارد لويس في بعض مؤلفاته وخصوصًا “اكتشاف المسلمين لأوروبا”، وهو على سعة علمه لا يوثق بأحكامه لما هو معروف من تعصبه، فضلا عن أنه لم يتوسع في الأمر بل تعرض له بسرعة.
[2] الجبرتي: مظهر التقديس ص26.
[3] ومما ينبغي أن يُلاحظ هنا في مسألة المرجعية الإسلامية: أن ألفاظ الإسلام والعروبة أو الشعب والأمة هي ألفاظ مترادفة تعبر عن معنى واحد في كتابات القرن التاسع عشر، ثم بدأت تأخذ الألفاظ معانيها المنفصلة المعبرة عن انتماء ديني أو قومي أو وطني أو عرقي – بحسب الحالة – في بدايات القرن العشرين، حتى فُتِح لها المجال واسعًا مع ما سُمِّي “الثورة العربية” ثم صارت هي الشعار الغالب في الخمسينات والستينات، وما إن انتهت السبعينات حتى كانت الغلبة لشعارات الوطنية المنفصلة عن القومية والمنفصلة بدورها عن الإسلام.
(وذلك فيما عدا الكُتَّاب النصارى الذين فصلوا عن وعي بين انتمائهم العربي القومي وبين انتمائهم الحضاري الإسلامي، ففخروا وكتبوا ونظروا للقومية العربية المنفصلة عن الانتماء الإسلامي الذي كان يمثله في ذلك الوقت سلطة الخلافة العثمانية، وقارن مثلاً رحلة فرنسيس مراش الحلبي “رحلة إلى باريس” بالرحلات الأخرى في عصره كرحلة الطهطاوي “تخليص الإبريز” وخير الدين التونسي “أقوم المسالك” وأحمد فارس الشدياق “الواسطة، وكشف المخبا”).
[4] وإن كانت هذه النخبة قد وفرت معرفة غزيرة عن الغرب من خلال ما قامت به من ترجمات ومؤلفات وما قامت عليه من صحف ومجلات وسلاسل علمية ودور نشر وجامعات ومعاهد علمية طوال هذه السنين.