الاستغراب الذي نريد هو العلم الذي ينبني على أسس إسلامية وينطلق من رؤية إسلامية، فالإسلام هو روح هذه الأمة، لم تكن قبل الإسلام شيئًا وبغيره لا تكون شيئًا، والإسلام ليس مجرد اختيار يسعنا أن نختار غيره حين نحدد طريقنا الحضاري، بل هو تعريفنا وهويتنا وأصل وجودنا الحضاري قديمًا، ومبرر وجودنا الآن ومستقبلاً لنبلغ رسالته.
ولسنا نحاول هنا إثبات هذا، بل إنما نبيِّن ضرورة التأسيس عليه، فكلامنا متوجه بالأساس إلى من يؤمن بالإسلام دينًا، ويعتنقه عقيدة وحضارة، فأما من كان في شك منه دينًا فمجاله كتب الأديان والعقائد، أو كان في شك منه حضارة فمجاله كتب التاريخ والحضارة والفكر، ولا يناسب أحدهما بحث في “التأصيل الإسلامي” للعلوم.
ولا بد لأي تأصيل إسلامي أن يتأسس على الشعور بـ “التميز الإسلامي” كنموذج وأساس وتصور، ونعني به يقين المسلم في أن الإسلام هو الدين الحق وأنه الحقيقة المطلقة وأنه المنهج الحق في تفسير هذا الكون، والحل الوحيد لمشكلاته، وأن ما عاداه باطل، حتى وإن لم يكن باطلاً من كل وجه، إذ ليس ثمة في الدنيا باطل خالص لا حق فيه!
هذا اليقين يورث المسلم أمريْن؛ الأول: الفخر والاعتزاز بدينه وأن يرى أنه أعظم نعمة من الله عليه، فعندها يكره أن يعود في الكفر أو يتلبس بباطل ككراهيته أن يُقذف في النار أو أن تمس النار منه بقدر ما تلبَّس من باطل، والثاني: الشعور بالمسؤولية عن هذا الكون وهؤلاء البشر وحمل الرسالة التي تصلحهم وتصلح أحوالهم ليقوم بدوره المطلوب منه: الخلافة في الأرض وإعمارها وإصلاح أهلها.
وهنا ينبغي أن نلقي الضوء على بعض أمور نضبط بها مفهوم التميز الإسلامي:
1. الشعور بالتميز ضرورة لكل أمة وحضارة
لم تكن ثمة حضارة إلا إذا شعر أهلها بأنهم متميزون عن غيرهم، ومن ثَمَّ فعندهم ما يقدمونه للناس ويدعونهم إليه، وليس ثمة أمة إلا وتشعر بأن لها من الخصائص والمزايا ما تفوقت به على غيرها وما هو جدير بأن يرفعها فوق غيرها، حتى وإن كان هذا مجرد شعور لا يؤيده الواقع، وهذا الشعور هو في حقيقة الأمر سر سنة التدافع الإنساني، وهو مبرر وجود الأمم ومُحرك همتها وباعث نهضتها، فإذا افتقدته أمة ماتت ولو كانت في الذروة! أو ذابت في عدوها إن كانت مقهورة، وحتى في لحظة الذوبان هذه فإنما تستبدل نفسها وتغير هويتها إلى هوية تعطيها شعورًا بالتميز وتمنحها مبررًا للوجود! وصحيحٌ أن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وأصحُّ منه أنه لم يفعل ذلك إلا تخلصًا من شعور الهزيمة والذلة والفشل والتماسًا لتعريف جديد أو هوية جديدة أو صيغة جديدة يجد فيها نفسه ذات تميز ورسالة.
ومن هنا نفهم ثلاثة أمور هي بمثابة الأصول التي لا ينبغي أن نغفلها بحال:
الأول: أن الأمم التي تَغْلِب إنما تَغْلِب بهذا الشعور بالتميز، فإن “جميع بناة الإمبراطورية كانوا ينظرون إلى أنفسهم كوكلاء للحضارة، وكنقيض لسدنة الثقافة المحلية المتخلفين، المؤمنين بالخرافات، وشبه الهمج” [1]، وبغض النظر عن هذه الألفاظ الـمُحقِّرة فإن المعنى ذاته صحيح، ولدينا من عبر عنه بخير من هذا فقال: “الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” [2]، ولهذا السبب كانت الحضارات الكبرى هي التي أُسِّست على أديان كما يقول المؤرخ البريطاني كريستوفر داوسن [3]، وذلك أن الشعور بالتميز يبلغ ذروته.
والثاني: أن الأمم التي تُغلب وتقاوم أيضًا إنما تقاوم بنفس هذا الشعور بالتميز، فهو خصيصة في الأمم الحية، ولقد شاع “في كل حضارة أنها تبدي نفورًا من اعتناق فكر ثقافي يطرح دعامة من دعائمها الراسخة للمناقشة، ولئن كان هذا النفور وذلك العداء الخفي نادرًا نسبيًا فهو يؤدي دائمًا إلى صميم الحضارة، فليس هناك حضارة -كما قال مارسيل موس- جديرة باسم الحضارة ليس لها عادات الرفض والنفور من الإسهامات الدخيلة” [4]، ويحدث هذا حتى داخل السياق الحضاري نفسه، فحركات مواجهة العولمة والأمركة تنتشر في أوروبا نفسها، بل قد يتطرف بعضهم في هذا فيمنع شابًا من وضع طبق هوائي فوق منزلة حفاظًا على “خصوصية الثقافة الألمانية”، وتستثني فرنسا القضايا الثقافية من معاهدة الجات لمقاومة مسلسلات هوليوود المختلفة عن ثقافة المجتمع الأوروبي [5].
والثالث: أن محاولة توحيد العالم في أمة واحدة عسكريًا ليست بأفشل من توهم إمكانية توحيدها ثقافيًا وحضاريًا، فكما “وثَّق العديد من العلماء، وكما بيَّنت الأحداث الجيوسياسية عمليًا، فإن البشر لا يفكرون عادة “تفكيرًا كوكبيًا”، وإن الثقافة المحلية، والقومية، والإقليمية، والتاريخ، والدين، والسياسات، ليست جاهزة كي تكنس إلى سلة النفايات التي سُميت “التاريخ”، وإن أولئك الذين تخيلوا غير ذلك يعانون الآن صدمات كريهة” [6]، وكيف تنجح محاولة كهذه وهي تخالف سنة الله في خلقه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات: 13]؟!
وإذن، فنحن لا نبعد إذا قلنا إن الشعور بالتميز فطرة إنسانية، يبحث عنها الفرد كما تبحث عنها الأمة [7]، ويمكننا أن نضرب على هذا مثلاً مهما، وهو الحالة الأمريكية، فأمريكا استلهمت الجذور والثقافة الغربية وذلك أنها كانت تحتاج إلى تاريخ وجذور فهي امتداد من امتدادات “الحضارة الغربية”، فإذا كان الحديث عن الواقع أو المستقبل قالوا “الحضارة الأمريكية”.
2. التميز الإسلامي حقيقة لا ادعاء
إن حاجة الأمم للشعور بالتميز أنبتت كثيرًا من الدعاوى والمزاعم والتي رسَّخت لنفسها بالأساطير والخرافات وما تيسر لها من حقائق ولو بتأويل وتكلف وتعسف، فمن الأمم من آمن أنه “شعب الله المختار” أو أنهم من نسل آلهة الشمس أو أولاد تزاوج الأرض بالسماء أو المختصون بالعقل والحكمة أو أصحاب الدم النبيل ونحو ذلك من دعاوى، وقد قصَّ الله علينا بعض هذا فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، ومن أطرف ما سمعته أن الهنود متعصبون جدًا لكل ما هو هندي حتى إن بعض المدرسين يعلمون الأطفال أن أول من صعد القمر هندي اسمه “الذراع القوي”، فإذا روجع في هذا قال: إنما أترجم لهم اسم رائد الفضاء “آرمسترونج”[8].
بينما التميز الإسلامي حقيقة لا يتطرق إليها شك، وذلك أنه صادر عن الله رب العالمين، وهو الحق وقوله الحق، ومسطور في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى لسان رسله وخيرهم محمد – صلى الله عليه وسلم -.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة” [9]، وقال صلى الله عليه وسلم: “وأنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تبارك وتعالى” [10].
وثبت هذا في ما بقي من الحق في كتب الديانات التي نالها التحريف، ومنه ما جاء في سفر التكوين “فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاكُ الله هاجر من السماء، وقال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة” [11]، ومنه ما جاء في كتب الديانات الهندية القديمة من أن أصحاب النبي الخاتم حمادون ومصلون، يلتزمون بالحمد والصلاة حتى أثناء الحروب، ويقاتلون بشجاعة بالغة، ويصلون ويتطهرون ويقاتلون من يلبس الحق بالباطل، ولا يأكلون إلا الحلال [12].
ونطق به كثير من غير المسلمين من الباحثين، سواء منهم من شهد شهادة عامة أو من شهد على خُلُق بعينه أو صفة بعينها، ومن ذلك قول الكولونيل الإنجليزي رونالد بودلي: “كانوا كالغيث الذي يخصب المكان الذي ينزل فيه” [13]، وقول الفيلسوف الألماني همبولد: “والعرب كانوا ذوي نشاط منقطع النظير، وهذا النشاط هو آية دور ممتاز في تاريخ الدنيا” [14]، وقول الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون: “الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم” [15]، وإن ما كتب في فضل الإسلام والمسلمين وحضارتهم يبلغ مجلدات، وكثير منها معروف ومشهور [16].
ففضل هذه الأمة وتميزها حقيقة لا دعوى، قالها الله – ومن أصدق من الله قيلا؟!- ورسوله وكثير من غير المسلمين.
بقي ضابط ثالث وبعض تعليقات نتعرض لها في المقال القادم بإذن الله تعالى.
—————————————-
[1] بوروما ومرجليت: الاستغراب ص49.
[2] الطبري: تاريخ الطبري 2/401.
[3] Christopher Dawson: The Dynamics Of World History, p. 128
[4] فرناندو برودويل: تاريخ وقواعد الحضارات ص24، 25.
[5] عاصم حمدان: الأعمال الكاملة 4/418، وهو مقال بعنوان “الأوروبيون والخصوصية الثقافية” نشر في 7/12/1993.
[6] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص49، 50.
[7] إن الإنجاز الأساسي لتوما الإكويني، والذي جعله مُعَظَّمًا في الغرب حتى الآن، هو جهوده التي قامت على التوفيق بين المسيحية من جهة، وبين العلم والفلسفة من جهة، وكان العلم والفلسفة في عصره إنتاجا إسلاميا لا ينازعهم فيه غيرهم، فكان حريصا على تخليص فلسفة أرسطو من كل الآثار الإسلامية –وبالأخص، شروح ابن رشد- ليردها إلى أرسطو “الغربي” خالصة من دون الناس، والأمر بقدر ما كان بالنسبة له “عملا رساليا في عصره” بقدر ما كان ضرورة قاهرة، فكما يقول مونتجمري وات: “الإنسان لا يمكنه أن يتحمل طويلا تناقضا جوهريا بين مفاهيمه الكونية وعقائده الدينية. ولهذا شرع علماء اللاهوت الأوروبيون في التوفيق بين النظرية المسيحية وهذا العلم الجديد” ثم ذكر جهد توما الإكويني ليخلص إلى النتيجة “وبهذا أمكن تبرير الزعم المسيحي بأن بوسع المسيحية أن تستهوي منطق الناس وعقولهم”. مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية ص106، وانظر: رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص19.
[8] سمعت هذا من د. دين محمد (سريلانكي) مدرس مادة الأديان الشرقية في كلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر.
[9] البخاري (836)، ومسلم (855) واللفظ له.
[10] أحمد (20029) والترمذي (3001)، وابن ماجه (4288)، والحاكم (6987) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[11] سفر التكوين 21/17، 18.
[12] صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/392، 435، 442، 448، 455، 456.
[13] ر. ف. بودلي: الرسول ص340.
[14] لويس سيديو: تاريخ العرب العام ص332.
[15] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص605.
[16] راجع مثلا: د. محمد عمارة: الإسلام في عيون غربية، د. راغب السرجاني: وشهد شاهد من أهلها، د. عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام.