تحتفل ليبيا في هذه الأيام بالذكرى الرابعة لانتفاضة 14 فبراير، التي انطلقت من مدينة بن غازي إثر اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم فتحي تربل، على نحو احتجاج سلمي تحول بسرعة إلى صراع دام مع كتائب القذّافي أفضى بعد أشهر إلى سقوط نظام الأخير خاصة بعد التدخل الحاسم لحلف الناتو.
يرى البعض أن ليبيا تحتفل اليوم، ويرى البعض الآخر أنها تبكي واقعها، إلا أن الجميع مُتفق على أن حالة انعدام الاستقرار في هذا البلد المغاربي باتت تُهدد كيانه وتهدد حتى دول الجوار خاصة في ظل ازدواجية تشريعية وعسكرية وحكومية مُتناحرة، ونقصد هنا برلمان طبرق وما تفرع عنه والمؤتمر الوطني وما تفرع عنه.
حسب بعض التحليلات، يتمحور إحراج الواقع الليبي حول حقيقة توغل الفاعلين الدوليين داخله، فلكل دولة “صديقة” مطامع ومصالح تدفعها للانتصار لهذا الطرف أو ذاك من أطراف النزاع، ولكل زعيم خطة وبرامج كُتب لليبيا أن تكون مخبرًا لتتنفيذها، وبالتالي أن تكون حلبة صراع إستراتيجي تغذيه دول من خارجها.
من بين الفاعلين الدوليين والذين يهمهم الملف الليبي بحكم الحدود المشتركة نذكُر الجزائر والتي طُرحت العديد من الأسئلة حول طبيعة دورها وقيمة هذا الدور مع التحولات السريعة التي تشهدها المنطقة خاصة إثر حادثة قتل الأقباط المصريين من طرف من قيل أنهم امتداد داعش في العمق الليبي وما خلفه من ردود فعل فتحت المجال أمام كل المآلات الممكنة.
حتى نفهم طبيعة تعاطي الدولة الجزائرية مع المستجد الليبي، من المهم أن ندرس سلوكها الدبلوماسي منذ انطلاق الحراك الشعبي ببنغازي، ففي ظل نظام حكم مستقر ملمحًا وبُنيانًا، يسهُل إيجاد خط ناظم يفسر ما سبق ويساعد على توقع نهجها في المستقبل.
(رجوع بالزمن 1) … نحن الآن في الفترة الممتدة بين 17 فبراير 2011 و23 أكتوبر من نفس السنة، وأحد الأخبار التي تصدرت عناوين الصحف في هذه الفترة هو إعلان مُثقفين جزائريين يتقدمهم الكاتبة أحلام مستغانمى والكاتب واسينى الأعرج وحقوقيين فى الجزائر رفضهم للموقف الرسمي لبلادهم تجاه ما تعرفه ليبيا من أحداث منذ شهرين من انتهاكات صارخة للأعراف الدولية، مؤكدين أن الموقف الرسمي الجزائري لا يعكس مشاعر الشعب في مساندة الشعب الليبي في التحرر من قيود الاستبداد.
وأكدوا في بيان لهم وفقًا لجريدة “الشروق” الجزائرية على عدالة قضية الشعب الليبي الذي من حقه أن يعيش حياة حرة، يقرر فيها مصيره، مثل كل شعوب العالم، وأن صمت السلطات الجزائرية تجاه هذه الأحداث هو سبب استمرار المجازر وأعمال التقتيل والتنكيل التي يذهب ضحيتها يوميًا عشرات الأطفال والنساء والمسنين.
لم تكُن ليبيا استثناء في علاقة بفتور الحماس الجزائري تجاه التحركات الشعبية التي شهدتها جارتاها (ليبيا وتونس)، فرغم بشاعة تعامل نظام القذافي مع المطالب البسيطة التي رفعها المُحتجّون في بن غازي في الأيام الأولى، اختار النظام الرسمي أن يُتابع في صمت مجريات الأمور وحيثياتها خاصة وأن بُطئ الحسم صعب إمكانيات التكهن بنتائج هذه الأزمة وهو قرار مفهوم باعتبار أن أي قرار خلاف الحياد سيُورطها ويُحولها من دولة جارة إلى أحد أطراف النزاع.
(رجوع بالزمن 2) … نحن الآن في يوم 17 مارس 2011 تاريخ التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 1973 بعد اقتراحه للمرة الأولى في اجتماع الجامعة العربية قبل ذلك بخمسة أيام.
الجزائر كانت من بين الموافقين على قرار الجامعة العربية الذي تبناه فيما بعد مجلس الأمن، إلا أن هذه الموافقة كانت على ما يبدو على مضض في ظل إجماع عربي كان سيدفعها نحو العزلة، وهو ما أكده تسريب لأحد الاجتماعات الوزارية الجزائرية تحدث عن أرق الجزائر من التدخل الأجنبي في القضية الليبية رغم التزامها بالقرار الأممي المصادق عليه من قِبل الجامعة العربية، لأنها ترى أن ما يقوم به الناتو في ليبيا تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول، كما تحدث التسريب على أن الاجتماع، الذي ترأسه الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى وحضره عدد كبير من الوزراء الجزائريين كان في مقدمتهم وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي، قدر أن انسحاب قوات الناتو من هذا الملف سيمثل أولى مؤشرات الانفراجات في القضية الليبية.
وذكرت الجريدة التي نشرت التسريب (الشروق) أن الجزائر قررت عدم التعامل مع الثوار في ليبيا إلا بشرط مغادرة حلف الناتو للمشهد الليبي ووقف الاعتداء على المدنيين.
(رجوع بالزمن 3) .. نحن الآن في نوفمبر 2012 حين أعلن الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية عمار بلاني على هامش أشغال القمة الاستثنائية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بأبوجا (نيجيريا) عن موقف بلاده من التدخل العسكري في شمال مالي حين اعتبر أن الحوار يبقى الخيار المفضل في تسوية الأزمة في مالي وهو “الموقف الذي تدافع عنه الجزائر”.
في ذات الشهر، ذكّر وزير الشؤون الخارجية، مراد مدلسي، أمام برلمانيين بريطانيين وباحثين من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، برفض الجزائر للتدخل العسكري في مالي، وأشار إلى أن”الدبلوماسية الجزائرية تقوم على ثلاث قواعد وهي تقرير مصير الشعوب وعدم التدخل في شؤون الغير والكفاح المستمر من أجل السلم وترقية التعاون”.
مما سبق، نستنتج الحذر الشديد الذي صبغ الدبلوماسية الجزائرية في علاقتها بالمشهد الليبي وموقفها المبدئي تجاه التدخل الأجنبي، فرغم موافقتها “الكاذبة” على مشروع القرار 1973، تواصل برودها تجاه اللاعبين الجدد في ليبيا واشترطت إنهاء تواجد الناتو على أراضيها لقبول التعامل مع الثوار.
هذا الحذر أو الخوف من انتقال عدوى الثورات ربما، أضاع على الجزائر التقاط اللحظة التاريخية السانحة إثر سقوط نظام القذافي للتموقع جيدا في الداخل الليبي ما يؤهلها لاحقا للعب دور كبير في مسالة المصالحة، فموقفها الرمادي تجاه ما آلت إليه الأمور، ثم استضافتها لعائلة الرئيس الليبي السابق دفع العديد من الفصائل الليبية المسلحة المسيطرة على الأرض لاعتبار أن الجزائر لازالت تدعم نظام القذافي؛ وهو الأمر الذي خلق حواجز بين الدبلوماسية الجزائرية وعناصر المشهد الليبي؛ ما أدى إلى تراجع إمكانية لعبها دورًا فيه مستقبلاً.
ظلت الدبلوماسية الجزائرية وجلة كسولة في تعاطيها مع الملف الليبي واكتفت بتأمين شريطها الحدودي مع جارتها التي تشهد انفراطًا في نسبة انتشار السلاح والاحتراب الأهلي، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت تغييرًا من حالة الانتظارية إلى حالة المبادرة … فما الذي دفع الجزائر للشذوذ عن خيط دبلوماسيتها الناظم الذي يمنعها من التدخل في شؤون الدول المجاورة من خلال مبادرتها للحل السياسي؟ وما الذي يدفعها للاستماتة في رفض تكرار استدعاء القرار 1973 مكرر (bis) القاضي بحسم عسكري، وهل ستنجح في ذلك؟
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في الجزء الثاني من هذا المقال الذي ينشر غدًا.