في سبتمبر الماضي وأثناء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعاصمة القطرية الدوحة، أعلن مسؤولون أتراك وقطريون اتفاقًا بشأن تأسيس المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي بين البلدين، وفي ديسمبر تم التوقيع على الاتفاقية التي تم التصريح حينها بأن من شأنها أن “تعزز التعاون الثنائي بين البلدين على أعلى مستوى، لاسيما في المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والمالية والاستثمارية، إضافة لمجالات الطاقة والأمن والعلوم والتكنولوجيا”.
وعلم نون بوست من مصادر تركية أن هناك اتفاقية للتعاون العسكري بين البلدين يجري التشاور بشأنها حاليًا، كما يجري عقد اجتماعات عالية المستوى بين حكومتي البلدين لتنسيق التعاون المشترك.
وبحسب المعلومات التي أكدها مصدر مسؤول في أنقرة، فإن لجنة من الوزراء من كلا البلدين تم تشكيلها برئاسة وزيري الخارجية، القطري خالد العطية، والتركي مولود تشاووش أوغلو وتضم وزراء الدفاع والصناعة والزراعة والمالية والعدل والسياحة.
ومن المقرر أن تُعقد عدد من الاجتماعات بين الوزراء، حيث ستنتهي تلك اللقاءات إلى رفع مذكرات لتحديث الاتفاقيات القائمة بين الدوحة وأنقرة، أو توقيع اتفاقيات جديدة بما يضمن استدامة التعاون المشترك، حسبما أكد المصدر المطلع.
اتفاقية التعاون العسكري تحصل على اهتمام خاص بين العديد من دوائر المتابعين للمشهد التركي، فمن شأن تلك الاتفاقية أن تعزز من تنسيق المواقف بين الدوحة وأنقرة بشأن عدد من القضايا المصيرية في المنطقة، الآنية منها مثل التعامل مع التهديد الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والاستراتيجية منها والمتعلقة بالتعاون بين البلدين في مجالات التصنيع العسكري والتدريب وغيرها.
وبحسب المصدر المقرب من السفارة القطرية، والذي رفض التصريح باسمه، فإن التعاون الإستراتيجي بين البلدين سيشمل قطاعات الصناعة والزراعة والقطاع المصرفي والمالي وقطاعات الإعلام والسياحة، ورغم أن حكومة العدالة والتنمية قد قامت بتوقيع اتفاقيات مشابهة مع عدد من دول المنطقة مثل العراق، إلا أن التقارب القطري التركي يُنظر إليه بشكل مختلف.
تتبنى قطر وتركيا موقفًا مشتركًا حيال العديد من قضايا المنطقة، فالجانب القطري كان يتفق حتى وقت قريب مع أنقرة بشأن الانقلاب العسكري في مصر وصعود الجيش إلى سدة الحكم منذ الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في صيف 2013، لكن الضغوط الخليجية ساهمت في تخفيف حدة الموقف القطري تجاه مصر، كما يتشارك الطرفان الرؤى حول القضية الفلسطينية والحق الطبيعي في مقاومة الاحتلال، وهو ما تعارضه قوى إقليمية بأشكال مختلفة من بينها حكومات القاهرة والرياض وأبوظبي.
التقارب السياسي أو الدبلوماسي حول قضايا المنطقة تدعمه مصالح اقتصادية لكلا البلدين؛ فرغم أنه للوهلة الأولى قد لا يبدو لدى تركيا وقطر أي قواسم مشتركة، إلا أن هناك العديد من العوامل التي ترسم السياسات المتقاربة لكلا البلدين.
بحسب تقرير نشره مركز ستراتفور الاستخباراتي في يناير 2013، فإن العامل أو الرابط الأكثر وضوحًا في التقارب القطري التركي هو الطاقة؛ فتركيا تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الغاز الروسي، في حين أن إيران كمورد للغاز، لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كبير، تنامي استهلاك الطاقة في تركيا يمنعها من الهرب من قبضة روسيا، لكنه يؤدي بتركيا أيضًا إلى التفكير في تنويع إمداداتها من الطاقة.
على سبيل المثال، قام الجانب التركي خلال زيارة أردوغان إلى الدوحة بتوقيع اتفاقية تقضي باستيراد 1.2 مليار متر مكعب من الغاز القطري المسال في تسع دفعات خلال عامي 2014 و2015.
الأجندات القطرية والتركية، من ناحية أخرى، طموحة للغاية فيما يخص السياسة الخارجية، تركيا تسعى لاستعادة نفوذها في المجال العثماني السابق، في حين تسعى قطر بمرونة للحفاظ على وجودها بين العمالقة على حدودها، إيران والسعودية، هذا الطموح أكده مصدر نون بوست الذي قال إن نقاشًا حول التمدد التركي والقطري في أفريقيا والبلقان كان من بين النقاشات التي حصلت على حيز من أحاديث الجانبين فيما يخص التعاون السياسي.
الأتراك لديهم موطئ قدم بالفعل في العديد من العواصم الأفريقية، كما أنهم يعتبرون دول البلقان هي الامتداد الطبيعي لبلادهم، وهو ما تدعمه الرواية التركية للتاريخ وطبيعة الجغرافيا على الجانب الغربي من بحر إيجة.
القطريون كذلك أوجدوا لهم نفوذًا عبر المساعدات والمشاريع الاستثمارية في أفريقيا، فالقارة السمراء باتت تحوز قرابة 76.5% من المساعدات والمعونات الإنسانية والتنموية المقدمة من دولة قطر التي تقدر بـ5.4 مليار ريال قطري، سواء عبر حكوماتها أو الجمعيات الخيرية التابعة لها إلى دول العالم، خلال عامي 2010 – 2011، وفقًا لتقرير رسمي للخارجية القطرية، لكن كيف سيتعاون الطرفان في هذا المجال؟
قطر لديها الكثير من المال لإنفاقه، والكثير من إمدادات الطاقة لتوفرها، لكنها تجد صعوبة في ترجمة هذه الموارد إلى نفوذ فعلي، خصوصًا أن سياستها الخارجية – بالتعريف – تنحي جيرانها الكبار في السعودية أو الإمارات.
الإمارات على الجانب الآخر، تسعى إلى تقزيم الدور التركي في دول البلقان. وبحسب مصدر صربي صرح للصحفي روري دوناغي في تحقيق نشره على موقع ميدل إيست آي وترجمه نون بوست في أغسطس الماضي أن”الإمارات تستخدم علاقاتها وإستراتيجيات الاستثمار في صربيا لإحباط المنافس التركي، ومنعه من تثبيت موطئ قدم راسخ ونشر نفوذه في منطقة البلقان”، وتابع “الخوف من الصعود الإقليمي التركي في البلقان هو الدافع الرئيسي للإماراتيين للتواجد في صربيا، وهذا ربما تم بنصائح أمريكية وإسرائيلية”.
المال القطري جنبًا إلى جنب مع المصالح التركية والخبرة بأمور البلقان، سيوفر فرصا استثمارية / سياسية لطرفي الاتفاق، فمن ناحية، ستوسع الدوحة من محافظها الاستثمارية خارج حدودها، وفي أرض متعطشة للاستثمارات، كما أنها ستقلل من خطر التهديد الإماراتي لتركيا في المنطقة.
من ناحية أخرى فإن تركيا تحتاج إلى بسط نفوذها الإقليمي والدولي، التواجد التركي في القرن الأفريقي سيسهم في تحجيم المارد الإيراني الذي يتمطى بذراعين أحدهما في اليمن والآخر في العراق وسوريا، قطر كذلك تحتاج إلى الخبرة التركية في أفريقيا لتنويع مواردها، وهو ما تحتاجه تركيا أيضا بشكل جزئي، وكدولة مستوردة للغذاء (إذ تنتج قطر حوالي 10٪ فقط من احتياجات سكانها من الغذاء) فإن أفريقيا تمثل منصة للاستثمار الزراعي الذي قد يعالج أزمة دولة صغيرة بحجم قطر.
السياسة الخارجية التركية التي وُصفت بتعبير رئيس وزرائها بأنها سياسة “تصفير المشاكل”، وتسعى من خلالها تركيا لأن تكون لاعبًا فاعلاً وليس وسيطًا فحسب، تتماشى مع السياسة القطرية في أفريقيا أيضًا، وحسبما نشر الباحث خالد حنفي في صحيفة الأهرام القاهرية في أبريل 2013، فإنه مع تراجع الدور المصري والليبي في أفريقيا، بدأت قطر في التمدد ولعب دور الوساطة في النزاعات الأفريقية (دارفور، إريتريا وجيبوتي 2010، السودان وجنوب السودان) وحتى بسط نفوذها في موريتانيا ودول غرب أفريقيا.
لكن النفوذ القطري في تلك المناطق يُنحّي القوى الإقليمية، والتي تختلف سياساتها جذريًا مع سياسات الدوحة؛ لذلك فإن وجود الظهير التركي سيدعم موقف الدوحة، بما يوفره من ضمانة وجود لاعب قوي في الساحة، لا يقل نفوذًا (إن لم يكن يزيد في بعض الأحيان) عن نفوذ دول بحجم مصر وليبيا أو الجزائر، بيد أن تلك الدول لا تمثل محورًا مشترك المصالح، ونظرة تلك القوى للدور التركي القطري المتصاعد في أفريقيا لن تكون موحدة على الإطلاق.
الجزائر التي تتفق مع قطر في حل أزمات ليبيا ومالي، لن ترى التواجد القطري التركي في أفريقيا كما تراه مصر التي تدعم أحد الأطراف الليبية وتدعم التدخل العسكري؛ ما سيؤدي إلى المزيد من التوتر في البلاد التي تتشارك حدودًا هائلة مع جارتها الجزائر.
بهذا الشكل من التعاون، يمكن لقطر أن تستفيد من وجود قوة إقليمية كبيرة مثل تركيا كحليف إستراتيجي طويل الأمد، أما الأتراك فإنهم سيستفيدون من وجود شريك عربي في المنطقة يضخ الودائع بالدولار ولا يجد غضاضة في دعم التمدد التركي، ولديه ذراع إعلامي شديد القوة وله إسهام كبير في تشكيل تصورات العرب عن السياسة وعن العالم.