إن تحديد أغراضنا من دراسة الغرب هو فرع من تعريفنا لأنفسنا، وحيث إننا أمة الإسلام فنحن نستمد معرفتنا بأنفسنا ودورنا في الحياة من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد أوجز سيدنا ربعي بن عامر هذا كله في عبارته الخالدة: “الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” [1].
وهذه المهمة تستلزم أشياء أربعة: العلم، والدعوة، والتعاون، والمواجهة، وليس ثمة رسالة حققت نجاحًا إذا لم تحقق هذه الرباعية، فكل واحد منها يُفضي إلى الآخر أو يلزمه، فتلك هي أغراضنا في دراسة الغرب.
ونبدأ في هذه السطور بأولها:
(1) العِلْم
بوَّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه “باب العلم قبل القول والعمل”، فالعلم مبتدأ كل أمر، فلا يصلح القول إلا إن كان على علم، ولا يصلح العمل إلا إن بُني على علم، وهذا من الوضوح والظهور بمكان يغني عن التدليل عليه.
وتحصيل العلم بالغرب هو من ضرورات الأمة، وإذا اعتمدنا تجديد الشيخ القرضاوي لمقاصد الشريعة [2]، فهو في صميم المقاصد الشرعية، وهو في كل الأحوال واجب لأنه مما لا تقوم واجبات أخرى إلا به، وذلك أن الأمة المكلفة بإصلاح الأرض والدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله يستحيل أن تقوم بهذه الواجبات دون تحصيل العلم المطلوب، ومن ثمَّ فإن هذا العلم هو في مرتبة الفرض الكفائي.
فأما من تصدى للعمل للإسلام في مجال يحتك بالغرب فقد صار العلم بالغرب واجبًا عليه بقدر ما يحتاجه، وصار التكليف في حاله متعينًا بهذا القدر، إذ العلم في هذه الحال من ضرورات حفظ العقل الذي قصد إليه الإسلام “بوسائل وأمور كثيرة، منها: فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، والرحلة في طلب العلم، والاستمرار في طلب العلم من المهد إلى اللحد، وفرض كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها أو دنياها فرض كفاية، وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى، كما ترفض التقليد للآباء وللسادة الكبراء، أو لعوام الناس” [3].
وتحصيل العلم بالغرب يحقق للأمة عددًا من المصالح والمقاصد الشرعية، أهمها هذه الستة:
1. تحقيق التعارف: وذلك مأخوذ من قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة في خلق الناس شعوبًا وقبائل [4]، والمعنى المقصود: “لم نجعلكم كذلك لتتفاخروا بآبائكم الذين مضوا في الشعوب والقبائل، وإنَّما جعلناكم كذلك لتعارفوا” [5]، “والحقيقة أن الإسلام دعا إلى السلام وحث عليه، ومبدؤه العام التعارف بين بني الإنسان لا التنابذ بينهم” [6].
2. معرفة الجاهلية: فإنها طُرُق وألوان وسُبُل كثيرة {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} [الأنعام: 153]، ومعرفة الشر من وسائل معرفة الخير كما كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرّ مخافة أن يدركه [7]، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن الباطل فقال: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟” [8]. ولا يتحقق الانتفاع من التحذير إلا بمعرفة سنن القوم، وقد ورد عن عمر بن الخطاب قوله: “إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية” [9]، ويترتب على معرفة الجاهلية زيادة الإيمان ووقر اليقين في القلوب، لما في ذلك من معرفة بعظمة الدين وحكمة الله وعلمه.
3. طلب الحكمة: التي هي ضالة المؤمن والتي أنى وجدها فهو أحق الناس بها، والتي من أجلها طلب الناس العلم في الشرق والغرب، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم عن الروم ختم الكتب بخاتم فاتخذ خاتمًا من فضة [10]، وكاد صلى الله عليه وسلم ينهي عن الغيلة [11] (بصفته رئيسًا للدولة) لولا أن رأى الروم وفارس لا يتضررون منه فلم يفعل [12]، ولبس صلى الله عليه وسلم جبة رومي ة[13]، وصَنَعَ له المنبر روميٌّ على نحو ما كان في بلاده [14].
وما لدى الغرب الآن من القوة لم يكن من فراغ ولم ينبت فجأة، والحاجة إلى القوة تستوجب الحاجة إلى الاطلاع على ما لديهم والتعلم منهم والتتلمذ عليهم والاستفادة من تجاربهم، وفي النهاية سنجد أن كل خير طبقوه إنما هو موجود – أو له أصل – في كتاب ربنا وسنة نبينا وتراثنا الفقهي والتاريخي ولكن القوم فعلوه ونحن غفلنا عنه أو أهملناه.
“إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب، فمن فقد شيئًا من هذه الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم، وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم” [15].
كذلك نطلب الحكمة في وسائلهم لحل المشكلات التي واجهتهم، فما كان نافعًا ومناسبًا وناجعًا تدبرناه، وما كان فاشلاً أو فاسدًا لم نحتج أن نجربه مرة أخرى، ولا يمكن الوصول إلى حكم بالنجاح والفشل إلا بعد دراسة وتدبر وتعمق في عوامل وظروف عديدة.
4. فهم السنن الكونية: وذلك أن سنن الله المسطورة في كتابه وفي سنة نبيه، إنما تستبين وتتضح من خلال الواقع والتاريخ، ومن هنا كان السير في الأرض وسيلة للعلم بالسنن: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
فإذا درسنا الغرب علمنا على وجه العلم واليقين لا الظن والتخمين أنهم {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113]، وعرفنا فيم يتفقون وفيم يختلفون، وما الذي يفرقهم وما الذي يجمعهم، ومتى نتعامل معهم جملة ومتى لا يسعنا إلا التفريق في المعاملة.
وإذا درسنا الغرب علمنا كيف تعمل سنن الله في قيام الأمم وسقوطها، وفسَّرنا ما يحل بهم من تقدم أو تراجع على ضوء معرفتنا بهذه السنن، فبالتفاصيل نعرف قدر كل عمل وأثره في ميزان النهضة أو السقوط، وعرفنا ما هي العوامل التي تحافظ على بقائهم وما هي التي تدفعهم للهاوية، وإذا ضبطنا هذا الميزان – وهو عملٌ جليل رهيب، لا يتأتى إلا بعد مجهود ضخم هائل – استطعنا أن نفهم أسئلة تبدو من بعيد محيرة ومثيرة مثل:
لماذا تظل الرأسمالية متماسكة رغم كل مشكلاتها وكوراثها؟ وكيف بعد هذه القرون من المادية التي صبغت الحياة الغربية وأنظمتها لازالت ثمة مظاهر إنسانية أصيلة؟ وكيف نجمع بين انحسار تأثير المسيحية والنقص المضطرد في أعداد المسيحيين والمترددين على الكنائس وبين ارتفاع شأن المسيحية وعلو صوتها وزيادة أموال الكنائس وثرواتها وابتلاع المجتمع الغربي لكل ما يصدر عن الكهنة والقساوسة من فضائح أخلاقية؟ وكيف يجمع الغرب بين مظهرين يبدوان متناقضين: الرحمة والرعاية الوافرة للأطفال، والقسوة والإهمال للكبار؟!
أليس مثيرًا للتأمل أن الفلسفات الغربية قد أدت إلى عكس مقصودها؟! كيف تطورت الرأسمالية التي قامت لمحاربة الاحتكار وتوفير اختيارات متعددة إلى أن صنعت أعظم طبقة احتكارية في التاريخ حتى إنها لتتحكم في مقدرات الدول وثروات الأرض؟! وكيف تطورت الاشتراكية التي قامت لتحرير الشعوب من الطبقية وتحكم الأقلية وسطوتها لتنتج أبشع نظام طبقي أفرز أوسع المذابح الشعبية وامتلكت أقليته من القهر ما لم يمتلكه إقطاعي عبر التاريخ؟! وكيف تطورت “النسبية” من فلسفة قامت وهي ترجو أن تكون سببًا في التعددية التي تفرز التسامح إلى فلسفة تُميِّع كل الحقائق حتى لم يعد من سبيل لإثبات شيء ما على أنه “حقيقة” إلا بقوة السلاح، فكأنها أفسدت كل منطق إلا منطق القوة، فأي تسامح يبقى حينئذ؟! وهل كانت العلمانية خروجًا من الدين حقًا أم أنه اعتناق لدين جديد: حلت فيه الدولة محل الكنيسة، والدستور محل “الكتاب المقدس”، وعلم الدولة محل الصليب؟!
وهذا فضلا عن الأسئلة الكبرى المطروحة دائمًا، والتي تعد الحضارة الغربية إحدى التجارب الإنسانية المهمة المفيدة في تحديد الإجابة، مثل: ما هي الفطرة الإنسانية؟ ما هو المشترك بين كل البشر؟ ومتى تنتصر الفطرة على نواقضها؟ ومتى تستطيع النواقض تحريف الفطرة وتنكيسها؟ وما الوزن النسبي لكل من: القوة المادية، القوة الناعمة، العدالة الاجتماعية، الاستقرار الاقتصادي …إلخ في معادلة النهضة؟ وما مدى قدرة الأرقام والإحصائيات على التعبير عن حقائق إنسانية مركبة؟
5. القيام بالواجبات: وذلك أن الأمة صاحبة رسالة إصلاح الأرض لا بد لها من العلم بكل ما يقتضيه هذا الإصلاح، سواء بالدعوة إلى الله وتبيين محاسن الدين وحقيقته وقدرته على إصلاح أحوال العباد وإنقاذ البلاد، أو بالتعاون على البر والتقوى مع المسلمين وغيرهم، أو بجهاد المفسدين والمبطلين ومقاومة شرهم ودرء فسادهم وإفسادهم، فكل هذا يستلزم علمًا واسعًا وافرًا في كل المجالات، وأيما مجال لم يكن فيه من يقوم به كان ثغرة، وربما كان ذلك إثما تحمله الأمة كلها إذا كان من فروض الكفايات التي لا تجد من يقوم بها.
6. معرفة فضل الإسلام: فمن الحقائق أن كثيرًا من فضل الإسلام على الغرب لم نعرفه إلا من خلال الغرب والمستشرقين، وقد قدَّمنا لدى مناقشة الاستشراق وآثاره كيف كشف المستشرقون كثيرًا من فضل الإسلام على الغرب وعلى الإنسانية، سواء بما حفظوه من تراث الأقدمين أو بما طوروه وجددوه أو بما أبدعوه وابتكروه، وتزيد الأهمية إذا كنا سندرس مناطق عاش فيها الإسلام زمنًا كالأندلس وصقلية وشرق أوروبا أو شعوبًا ما تزال مسلمة رغم وجودها – جغرافيا – في الغرب كشعوب البلقان، “إذ لا بد من دراسة عميقة واسعة لتاريخ الشعوب والأمم والبلاد والمجتمعات، حتى نستطيع أن نقارن بين ماضيها وحاضرها ونهتدي إلى عمل الدعوة الإسلامية والبعثة المحمدية في تغيير العقيدة وإصلاحها، والقضاء على آثار الجاهلية والفلسفات الوثنية والتقاليد الموروثة، وتحويل التيار الفكري من جهة إلى جهة، والتغيير الثوري في القيم والمثل، وتناول المدنيات بالتهذيب والتحسين” [16].
————————————–
[1] الطبري: تاريخ الطبري 2/ 401.
[2] رأى الشيخ القرضاوي أن مقاصد الشريعة التي ذكرها الأقدمون متعلقة بالفرد “الدين، النفس، العقل، النسل، المال”، وينبغي أن يُضاف إليها ما يتعلق بمصلحة المجتمع والأمة. انظر: د. يوسف القرضاوي: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص27 وما بعدها.
[3] د. يوسف القرضاوي: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص29، 30.
[4] محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان 3/45، 7/417.
[5] الشافعي: تفسير الإمام الشافعي 3/1281.
[6] محمد أبو زهرة: زهرة التفاسير 2/652.
[7] البخاري (3411)، ومسلم (1847).
[8] البخاري (6889).
[9] ابن تيمية: منهاج السنة 2/398.
[10] البخاري (5537).
[11] الغيلة: هي وطء الزوجة المرضع، وكانت العرب تظن أنه يضر بالولد.
[12] مسلم (1442).
[13] أحمد (18265)، والترمذي (1768)، والنسائي (125)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[14] الطبراني: المعجم الأوسط (2250)، وابن خزيمة (1777)، وقيل عن الرومي إنه ربما يكون تميما الداري “لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم”. ابن حجر: فتح الباري 2/399.
[15] محمد رشيد رضا: مجلة المنار 17/10.
[16] الندوي: الإسلام أثره على الإنسانية وفضله على الحضارة ص13.