كان حق هذا المبحث أن يكون المبحث الأول في هذا الفصل، فإني أكتبه في ظلال تدشين الحرب الجديدة على الإسلام، والعنوان هذه المرة هو “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، إلا أني آثرت الترتيب الذي أدركناه من الإسلام: التعارف ثم الدعوة، فإن لم يمكن فالتعاون، فإن لم يكن من سبيل فالجهاد والمواجهة، وقد جعل الله آخر الدواء الكي، وفرض على عباده القتال وهو كره لهم.
إن الصراع بين الحق والباطل مستمر منذ أن كان هذا المشهد {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 75 – 83].
وذلك الصراع لا يكتفي فيه الباطل بالقلم واللسان، بل يسرع إلى السيف والسنان، فإن حجته داحضة، وإنه زهوق! لذا سرعان ما يعبر الصراع عن نفسه في ساحات القتال!
باستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945، ظهر أنه: نشبت 34531 حرب خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيل لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقط [1].
إننا الآن في القرن الخامس عشر للهجرة، ويمكن القول بأن هذه القرون الطويلة لم تشهد هدنة طويلة بين الإسلام والغرب، فما إن تسكن الحرب حتى تشتعل مرة أخرى، رغم أن أول أمرها كان رسالة أرسلها النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل، والذي كان ممن {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ففضَّل الملك والحياة الدنيا على الآخرة، ثم مات مهزومًا يرى جيوشه تنهار أمام المسلمين.
وإننا لنعلم من حديث نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن المعركة بين المسلمين والروم مستمرة إلى نهاية الزمان، ولذا لا يصح أن يخجل المرء أن يقول بأن من أغراض دراسة الغرب هو جهادهم وقتالهم، فهذه بمثابة الحقيقة الكونية التي لا سبيل إلى تغييرها، ولو كان الأمر بيدنا فلربما حاولنا لكنه أمرٌ لا نتحكم فيه وحدنا!
بل إن الخجل من قول هذا هو من علامات الانهيار النفسي، فالحقيقة والواقع أننا أمة مسحوقة على يد الغرب، وصاحبة ثأر طويل معه، فقد شرب من دمائنا ونهب ثرواتنا ثم يقول: هل من مزيد، ثم سلط علينا صنائعه من المستبدين والمفسدين ودعمهم، فحكم بهم البلاد وأذل بهم العباد، وأعطاهم من الأموال والأسلحة ما مَكَّنهم من ذبح الأمة وتسليمها ذليلة قابلة للاحتلال والاستعباد، وأنشأ إسرائيل في بلادنا وكان لها شريان حياة، وماتزال حممه تنهمر علينا في كل حين، وليس من داعٍ للإطالة فيما هو معروف مشهور!
ويزيد من شدة اللحظة الحاضرة ذلك الصعود السياسي للمتعصبين في الغرب – سواء اليمين المسيحي الصهيوني في أمريكا، أو الأحزاب اليمينية العنصرية في أوروبا – ووجود قوات عسكرية غربية في عواصمنا المحتلة – عسكريًا وسياسيًا – وعلى سواحلنا، والصوت المرتفع للمنظرين والمفكرين الذين يوجهون الاستراتيجية نحو مزيد من الحرب والسيطرة.
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بإعداد القوة حتى في حال السلم لتحقيق الردع: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، فكيف ونحن الآن في حال الحرب وفي وضع الهزيمة والدفاع عن النفس؟! إنه جهاد مفروض على كل مسلم، وكلٌّ بقدر ما يستطيع.
ومن القوة الواجب إعدادها دراسة الخصم والعلم بكل ما يجري في معسكره ويؤثر عليه، ونحن أحرى الناس أن نفقه هذا بعدما رأينا من الفائدة العظمى التي حققها الغرب من علم الاستشراق وجهود المستشرقين في احتلال بلادنا، إذ لم يعد الغزو عسكريًا فحسب، بل صار إعلاميًا وثقافيًا، وهذا نابليون نزل مصر بجيوشه وهو يعلن أنه قد أسلم وأنه تابع للخليفة العثماني وأنه أحسن دينا من المماليك بل إنه ما قدم إلا لإزالة فسادهم [2]، وكان كرومر يُثني على الشيخ محمد عبده وجهوده علنا بينما يسعى في تغيير كل النظام التعليمي من خلال دنلوب سرًّا، وما كان كل هذا ليتم لولا التقارير العلمية التي توصي بقول هذا وعمل هذا [3].
يبدو الغرب من بعيد ككتلة واحدة، بينما إذا اقتربنا شيئًا يسيرًا وجدناه كُتَلًا متفرقة وإن استطاعت الحفاظ على تعاون وثيق فيما بينها، ومنذ أن تفرقت اللغة اللاتينية إلى لغات عدة فليس ثمة إمكانية لإعادة هذه الكتل إلى كتلة واحدة، إذ وحدة اللغة من أهم عوامل الوحدة السياسية، ثم إن ما مرَّ به الغرب من أحداث هائلة – آخرها الحرب العالمية الثانية – أحدث شروخًا عميقة، فالألمان – مثلاً – صار لديهم شعور عميق بالمظلومية فهم أقوى اقتصاد في أوروبا لكنهم بلا نفوذ سياسي وبلا جيش، وتشيع في دول جنوب أوروبا موجة من الفقر كما في إيطاليا وإسبانيا، وقد تزيد حدة كما في اليونان، وهذا بخلاف طموحات الانفصال كما في إسكتلندا عن بريطانيا وكتالونيا عن إسبانيا والبندقية عن إيطاليا، وعلى ضفة المحيط الأخرى يعتبر الأمريكان انفصالهم عن الإنجليز “استقلالاً”، ولديهم فخر بالآباء المؤسسين وبالدستور الذي تنطق نقاشاته بالعداء للإنجليز ونظامهم وابتغاء بناء نظام على خلاف نظامهم، حتى إن صحفيًا أمريكيًا تضيق الصحف والقنوات الأمريكية بتقاريره لا يجد متنفسا له إلا في الصحف والقنوات الإنجليزية، وهو حين يفعل تصله رسائل تقول “ابتعد عن أمورنا السياسية أيها الخنزير الإنجليزي” [4]!
لكن المواجهة تحتاج إلى الاقتراب أكثر وأكثر وأكثر، وتستلزم علمًا بالتفاصيل والدواخل، لتترتب الأولويات والعداوات، ونعرف كيف نحفظ أنفسنا وكيف نصيب من عدونا، ورحم الله أبا الطيب لما قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان .. هو أولاً، وهي المحل الثاني
————————————–
[1] عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية ص19.
[2] الجبرتي: مظهر التقديس ص23، 24.
[3] يذكر مؤرخ الحملة الفرنسية كريستوفر هيرولد أن أول رحلة استطلاعية لاحتلال مصر كانت قبل الاحتلال الفعلي بعشرين سنة، حيث أوفدت الخارجية الفرنسية البارون دتوت إلى مصر، وصحبه في رحلته العالِم الطبيعي سونيني، ومما جاء في تقريره: التوصية بأن تبدأ الحملة أعمالها بإذاعة “منشور يطمئن الأهالي إلى أن الفرنسيين قدموا بوصفهم أصدقاء، وحلفاء للسلطان، ومحررين لهم من ربقة المماليك”. كريستوفر هيرولد: بونابرت في مصر ص17، 20.
[4] جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها ص9، 11، 13، 15.