“لو خرج مذيع الأخبار على الناس ذات يوم ليقول في نشرته إن كوبا جردت جيشًا لتحارب أمريكا وروسيا، وإنها انتصرت على الاثنين، وإنها نشرت علمًا وحضارة وعقيدة بلغت بها تخوم الصين؛ لقلنا ونحن نستمع إلى هذه الأخبار: هذا رجل أصابته لوثة؛ فكيف تخرج شراذم ذليلة قليلة من بلد صغير مثل كوبا فتنتصر على الشرق الروسي والغرب الأمريكي وتصنع حضارة تغير بها العالم، هذا مستحيل، هذا رجل مجنون، ولكن هذا المستحيل هو الذي حدث بالضبط حينما خرج من الجزيرة العربية الفقيرة المتخلفة جيش يحمل راية لا إله إلا الله، فانتصر على الروم والفرس، وبلغ تخوم الصين شرقًا، وشواطئ الأطلسي غربًا، واندفع شمالاً حتى أسوار فيينا، واندفع جنوبًا حتى السودان والحبشة، ونشر حضارة غيرت وجه العالم، تلك هي الظاهرة الإسلامية التي أصابت العالم بالذهول والارتجاج، وتلك الظاهرة المذهلة كانت وراء حملة الاستشراق التي حدثت في أوروبا وأمريكا وروسيا واليابان وفي كل مكان فيه إنسان يفكر”[1].
لقد نشرنا على هذا الموقع نبذات موجزة عن تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلم – الدعوة – التعاون – المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2).
ونحسب أنه من الأفضل أن نتوقف عن تجربة الاستشراق فنعرض موجزًا لخلاصتها: تاريخها وحصادها، ونسأل الله أن يوفقنا لذلك في هذه المقالات التالية. والتي نبدأها بهذه السطور عن ولادة الاستشراق ومراحله الأولى.
***
يدور تعريف الاستشراق حول معنى “طلب علوم الشرق وآدابهم”، ومن ثم فإن المستشرق هو “عالم متمكن من المعارف الخاصة بالشرق ولغاته وآدابه”[2]. وهو حركة لبست ثوب العلم منذ بدايتها وإن اختلف حول مدى تحقق أو صحة هذه “العلمية”، إلا أنها ظاهرة علمية تثمر خلاصاتها في كتب وأبحاث ودراسات، ويتناولها من يمارسون البحث والدرس والتأليف.
إلا أن هذا التعريف “الموضوعي المحايد” لا يعبر عما خلف هذه الظاهرة “العلمية” من أغراض أوقفت لأجلها مؤسسات وصروح علمية وسياسية واقتصادية أيضًا، ولعل هذا ما دفع إدوارد سعيد لصياغة تعريف آخر ينظر إلى الاستشراق “بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق، والتعامل معه معناه التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه والتسلط عليه”[3].
لقد ولد الاستشراق ونما كما ينمو الكائن الحي، ثم نضج واستوى على سوقه وصارت له صروح علمية فاخرة، ثم يختلف الناس في حاله الآن: هل مات وانتهى؟ أم هو في شيخوخته ولم يعد قادرًا على أداء دوره الذي كان يؤديه في الشباب؟ أم أنه تطور واستحال إلى صيغ أخرى ليواكب تغيرات العصر؟
***
لقد ولد الاستشراق في عهد التفوق الإسلامي الكاسح: عسكريًا وسياسيًا وحضاريًا، ومن ثم فهو أحد صور الاستجابة الغربية للتحدي الإسلامي[4].
وقد جاءت بداية هذه الاستجابة من الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي طرحت أول صف من النصارى يردون على الإسلام ويكتبون في “إبطاله” وجدال أهله، فيما كانت الإمبراطورية الرومانية الغربية حينئذ في وضع مثير للشفقة تضرب الفوضى في أطنابها ولا يستقر لها حال في قوة ولا في حضارة، حتى جاءها بعد نحو قرنين شارلمان الكبير الذي اعتبر بطلاً رغم أنه لم يستعِد سوى نصف ما كان للإمبراطورية الرومانية الغربية بل أقل، وبعد مذابح هائلة من أبرز مذابح التاريخ الإنساني!
إلا أن التآكل المستمر للإمبراطورية البيزنطية تحت الفتوح الإسلامية حتى سقوطها النهائي على يد العثمانيين حال دون نمو هذه الظاهرة، فيما مثَّل التوقف الإسلامي عند حدود فرنسا، ثم ظهور وحدة أوروبية غربية، فرصة لظهور ونمو هذه الحركة في أوروبا، وهذا ما جعل الاستشراق يأخذ اسمه ذي الإيحاء “الجغرافي”.
ثم جاء عصر الحروب الصليبية، ذلك العصر الذي أعادت فيه أوروبا تعريف نفسها وتحديد مهمتها وقضيتها، واستطاعت إخراج طاقتها العنفية من الحروب الداخلية إلى الخارج، في صيغة دينية مقدسة شكلت وضعًا جديدًا على مستوى تاريخ الشرق والغرب، امتدت تأثيراته إلى داخل المجتمعات الغربية والشرقية والعلاقة بينهما، وأثرت في نمو قوى اجتماعية وعسكرية وتغيرات سياسية وثقافية واسعة.
في هذا العصر انتقل “الاستشراق” من مرحلة الولادة إلى مرحلة الطفولة، ومثلما ينشئ الطفل واقعًا جديدًا في البيت بل ويستطيع التأثير على الكبار من حوله بما يثيره من فوضى وإزعاج أو ما يبديه من رغبات ومطالب، صنع الاستشراق روحًا ثقافية غربية جديدة ألهبت أوروبا تجاه الإسلام والمسلمين، وهو ما نستعرضه إن شاء الله في المقال القادم.
————————————-
[1] د. أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق ص3. (مقدمة د. مصطفى محمود).
[2] انظر في تعريفات الاستشراق وتحليلها ونقاشها:
د. أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق ص22 وما بعدها، د. محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق في ميزان الفكر الإسلامي ص9 وما بعدها، د. أحمد عبد الرحيم السايح: الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي ص9 وما بعدها، د. إسحاق السعدي: تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه 1/176 وما بعدها.
[3] إدوارد سعيد: الاستشراق ص45، 46.
[4] أقدم من يمكن تصنيفهم كمستشرقين، وذلك قبل ظهور الاستشراق كحركة، كانوا قساوسة درسوا في الشرق، ويشار عادة إلى الراهب الفرنسي جربرت دي أورلياك (Gerbert d`Aurillac) الذي صار البابا عام (999م) وتلقب بسلفستر الثاني (Pope Sylvester II)، وقد طلب علوم العرب في الأندلس والمغرب. كما يشار إلى الراهب بطرس المبجل أو المحترم، وكذلك الراهب جيرار دي كريمون (الكريموني).
انظر: د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص110، 178، د. عبد الرحمن حبنكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة ص122 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص15 وما بعدها.
Bulletin of the British Association of Orientalists, vol11, p41.