ذكرنا أن الاستشراق وُلِد في لحظة المواجهة الأولى بين الإسلام والغرب، وعاش طفولته في عصر الحروب الصليبية، والآن يدخل الاستشراق مرحلة “النضوج” التي نتناولها في هذه السطور.
بدأ نضوج الاستشراق في اللحظة التي تحول فيها من مجهودات فردية إلى عمل مؤسسي، تلك اللحظة كانت مجمع فيينا الذي يعتبره عامة الباحثين في الاستشراق البداية الحقيقية للاستشراق، كان ذلك في مطلع القرن الرابع عشر (1311 – 1312)، واتخذ مجلس الكنائس قرارًا “بإنشاء سلسلة من كراسي الأستاذية للغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية في باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينيون وسالامانكا”، وكان بطل هذه اللحظة هو البابا إكليمنص الخامس، ولذا فقليلاً ما ينتبه الباحثون إلى بطل آخر سبقه بربع قرن، وهو البابا هونوريوس الرابع الذي أنشأ أول معهد لدراسة اللغات الشرقية في جامعة فرنسا أواخر القرن الثالث عشر الميلادي (1285م).
ومثلما كانت فرنسا صاحبة السبق في إنشاء كراسي للغات الشرقية، فقد سبقت إلى إنشاء كراسي للغة العربية على وجه الخصوص، لم يسبقها بذلك إلا إسبانيا التي أنشأت كرسيًا للغة العربية بعد مجمع فيينا في سالامانكا، أما فرنسا فقد أنشأ الملك فرانسوا الأول كرسيًا للغة العربية والعبرية في مدرسة ريمس عام 1519، وأنشأ الملك هنري الثالث كرسيًا للغة العربية عام 1587، ثم تبعتها بريطانيا بعد أكثر من قرن، إذ أُنشئ أول كرسي للغة العربية في جامعة كمبريدج 1633 بتوصية من كبير الأساقفة لود (Loud)، ثم بعد ثلاث سنوات أُنشئ أول كرسي للغة العربية في جامعة أكسفورد 1636.
في هذه الفترة لحق الإيطاليون بركب اللغات الشرقية؛ ففي القرن السابع عشر كلف مجمع نشر الإيمان الهبنات تأسيس مراكز اللغات الشرقية في روما، ثم قرر المجمع تدريس العربية والسريانية والعبرية في البندقية، وغيرها إذا وجد من يعلمها، وأنشأ الكاردينال مديتشي مدرسة للغات الشرقية ومكتبة في فلورنسا، والكاردينال بورميو مدرسة للغات الشرقية في ميلانو، بينما كان الإسبان في تلك الفترة قد أنشأوا خمسًا وعشرين كرسيًا للغات الشرقية!
وفي مطلع القرن الثامن عشر زادت إنجلترا كرسيين للغة العربية في جامعتي أكسفورد وكمبريدج، وفي ذات الوقت كانت فرنسا تدعم تشكيل بعثات من الطلاب الفرنسيين لدراسة اللغات الشرقية، ثم لم ينتهِ القرن حتى أنشأت في فرنسا المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية في باريس عام 1795 للسفراء والقناصل وكبار التجار ذوي العلاقات مع الشرق، وفي ذات الوقت كانت معرفة اللغة العربية من مؤهلات ترقي الموظفين في إسبانيا على عهد الملك كارلوس الثالث الذي وسع المكتبة الملكية ونظم مكتبة دير الأسكوريـال.
وفي منتصف القرن الثامن عشر لحق الألمان بالركب، وكانوا قد بدأوا في تدريس اللغات الشرقية خلال القرن السادس عشر، لكن المحاولة الأولى لتدريس اللغة العربية كمادة مستقلة كانت بعد هذا التاريخ بقرنين من الزمان على يد المستشرق الألماني الشهير جوهان رايسكه، فيما لم يلحق الإيطاليون بركب تدريس اللغة العربية حتى أواخر القرن التاسع عشر، حين تحول المعهد الذي أنشأه الأب ريبا آعد الصيني إلى معهد شرقي في أواخر القرن التاسع عشر (1888م)، وفيه كرسي للغة العربية ولهجاتها، والبربرية، والتركية، والفارسية، والألبانية، وغيرها.
ثم ظهر في القرن التاسع عشر بطل جديد في عالم الاستشراق، ذلك هو المستشرق الفرنسي الأشهر سلفستر دو ساسي، والذي ازدهرت على يديه المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس، والذي يتردد اسمه بين المستشرقين حتى الآن بإجلال كبير، ويُعدُّ تلاميذه الألمان هم آباء الاستشراق الألماني، لاسيما هاينريش فلايشر (1801 – 1888) الذي يعد المؤسس الفعلي للدراسات العربية في ألمانيا، وأستاذ الجيل الثاني من المستشرقين الألمان، الذين تخرجوا من معهد اللغات الشرقية، الذي تم تأسيسه في عام 1887 في برلين، ثم حل محله معهد اللغات الشرقية في بون.
ثم بدأ عصر الاستعمار منذ منتصف القرن التاسع عشر، فازدهرت معه حركة الاستشراق التي تلقت دعمًا قويًا من السلطات، ونشطت حركة الدراسات العلمية والميدانية وشراء وسرقة ونقل المخطوطات من البلاد الإسلامية، ومن ثم ترجمتها ودراستها وفهرستها وتحقيقها والتعليق عليها، والاستفادة منها، كما ازدهرت حركة الرحالة المستشرقين إلى الشرق وحركة الابتعاث كمدرسين في المدارس العليا وأساتذة في الجامعات، وهذا كله بخلاف الخبراء الذين صحبوا جيوش الاحتلال والخبراء الذين دعموا الحكومات المحلية المرتبطة بالاحتلال، وسائر البعثات السياسية المقيمة بصفة دائمة أو مؤقتة، فقد كانت كل هذه الأنشطة تستلزم المزيد من خبراء الشرق، ومن ثم زادت الحركة الاستشراقية نشاطًا من حيث الأقسام والمعاهد والجامعات والجمعيات العلمية والمؤتمرات الدورية والإصدارات المختلفة، حتى أصبح تتبع حركة الاستشراق نفسها أمرًا يحتاج دراسات مطولة وجهد بحثي كبير.
وقد بدأ هذا الازدهار في بريطانيا وفرنسا بالأساس، ثم في إسبانيا التي نشطت فيها حركة الدراسات العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بينما نشط الاستشراق الإيطالي أوائل القرن العشرين مع بداية دخولهم على خط الاستعمار إذ أُنشئ المعهد الإيطالي لأفريقيا عام 1906، ونشط الاستشراق الألماني عقب الحرب العالمية الثانية.
والآن لا تكاد توجد جامعة شبه معروفة إلا ولها نصيب من كلية أو معهد أو قسم يدرس الاستشراق، ولا توجد مكتبة شبه معروفة إلا ولها نصيب من المخطوطات الإسلامية فضلا عن الدراسات الاستشراقية.
وأما الاستشراق الأمريكي فقد بدأ من منتصف القرن التاسع عشر فقط، ولكنه الآن أكبر وأخطر وأقوى استشراق في العالم كله، وترصد له الأموال والميزانيات الضخمة، وتعتبر الجامعات الأمريكية والمراكز البحثية الأمريكية هي الأقوى والأغنى على مستوى العالم، ويمكن أن نرجع الاهتمام البحثي بالشرق إلى عام 1842، حين تأسست الجمعية الشرقية الأمريكية، والتي بدأ إنتاجها في العام التالي من خلال نشر ترجمات أو وضع دراسات عن الشرق، ولكن التطور الكبير لحركة الاستشراق الأمريكي يمكن إدراكها من بعد منتصف القرن العشرين في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، واليوم تعد جامعة هارفارد أكبر الجامعات الأمريكية التي تعني بدراسة الشرق ولغاته وتاريخ شعوبه، ومنذ بدأت جامعة برنستون بتعليم اللغات والآداب الشرقية منذ عام 1935 وهي تعتبر “عش الاستشراق” وأهم مراكزه في العالم، ولا ينقص ذلك من جهد باقي الجامعات في الاستشراق مثل: جامعة كولومبيا، جامعة بنسلفانيا، جامعة ميتشجين، جامعة كاليفورنيا، جامعة بوسطن، وجامعة شيكاغو… إلخ، وهذا بخلاف الجامعات والمعاهد التي تعمل في العالم الإسلامي وعلى رأسها الجامعة الأمريكية في القاهرة، والجامعة الأمريكية في بيروت، وكذلك المعاهد البحثية المنتشرة في العالم الإسلامي، سواء منها ما يعمل بالاسم الصريح أو يضع له اسمًا محليًا.
وبعد هذا كله يعد من العبث السؤال عن ارتباط الاستشراق بالحكومات الغربية، وكيف أنه يعمل في خدمة مصالحهم قبل أن يعمل في خدمة العلم متحليًا بالأمانة العلمية، إلا أن الباحثين المسلمين يصرون على ذكر الدلائل والتصريحات على هذا الارتباط في معرض تفسير السؤال المتبادر إلى الذهن: إذا كان الاستشراق عملاً علميًا، وإذا كان المستشرقون قد استطاعوا الوصول إلى المصادر الأصلية ولم يعودوا يعانون صعوبة التواصل مع المسلمين، فلماذا لم تتحسن صورة الإسلام في الغرب؟! ولماذا خرجت أغلب الكتابات الاستشراقية تنقل صورة شائهة عن المسلمين؟!
هذا ما نتناوله بإذن الله تعالى في المقال القادم
———————————-
المصادر:
* في تاريخ وتطور الدراسات الشرقية في الغرب بشكل عام: عبد الرحمن حبنكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة ص 122 وما بعدها، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة 2/687 وما بعدها، مكسيم رودنسون: الصورة العربية والدراسات الغربية الإسلامية، ضمن “تراث الإسلام” بإشراف شاخت وبوزوروث 1/29 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاستشراق البريطاني: نجيب العقيقي: المستشرقون 2/7 وما بعدها.
C. E. Butterworth, B. A. Kessel: The Introduction of Arabic Philosophy Into Europe, p. 65 – 82.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الفرنسي: نجيب العقيقي: المستشرقون، 1/138 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص 78 وما بعدها، 207 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاسشتراق الألماني: نجيب العقيقي: المستشرقون، 2/340 وما بعدها، صلاح الدين المنجد: المستشرقون الألمان ص7 – 13، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص 55 وما بعدها، 94 وما بعدها، 341 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الإيطالي: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/405 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص 45 وما بعدها، 78 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الإسباني: نجيب العقيقي: المستشرقون 2/173 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص 277 وما بعدها.
C. E. Butterworth, B. A. Kessel: The Introduction of Arabic Philosophy Into Europe, p. 7 – 30.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الأمريكي: نجيب العقيقي: المستشرقون 3/120 وما بعدها، د. مازن مطبقاني: بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ص 51 وما بعدها.