قبل انطلاق الصحافة الإلكترونية، لم يكن يسيرًا أن يتخيّل قراء الصُحف الكبيرة كيفية قراءة مقال كامل دون الإمساك بورقة صحيفتهم اليومية بين أيديهم، واليوم ليس عليهم فقط أن يتخيّلوا ذلك، بل ربما قراءة الصحيفة دون حتى المرور على اسمها أو الحاجة إلى تذكّره، إذ يُفتَرَض خلال ستة أشهر أن تبدأ صحيفة نيويورك تايمز في نشر محتواها على الفيسبوك بشكل مباشر، طبقًا لما أعلنته الجريدة، ليظهر الموضوع كاملًا ببساطة على شريط الأخبار الخاص بك.
ما لبث إعلان نيويورك تايمز أن انتشر حتى بدأت النقاشات في كل مكان حول تأثير دخول الفيسبوك على عالم الصحافة وما إذا كان بالسلب أو الإيجاب، وما إذا كان موقع فيسبوك سيتوصل لاتفاق لمشاركة أرباح قراءة تلك الموضوعات مع الصُحف التي تملكها من الأساس أم سيحصل على الربح كله باعتباره المساحة التي توفّر لتلك الصُحف مضاعفة أعداد قرّائها، فكُل ما نُشِر عن اتفاق الفيسبوك مع نيويورك تايمز هو أن الصحيفة ستحصل على تخفيض لإعلاناتها مقابل النشر في فيسبوك، والذي يستخدمه حوالي مليار ونصف شخص شهريًا.
“الفيسبوك يقوم بجلب حوالي ثلثي قراء المواقع الكبرى حاليًا”، هكذا قال جوستين سميث، المدير التنفيذي لشركة بلومبرج ميديا، في إشارة إلى أهمية الفيسبوك المتزايدة كـ “ميدان” افتراضي – إن جاز القول – يمر عليه الجميع، وبالتالي تطمح كافة المنابر الإعلامية إلى التواجد فيه بأكثر شكل ممكن.
على الناحية الأخرى، وعلى عكس النظام الحالي المعمول به، حيث تقوم الصحف بنشر جزء من مقالاتها على فيسبوك، ثم تُحيل الزوار المهتمين إلى موقعها الأصلي، سيكون النظام الجديد بالكامل على فيسبوك، مما يعني أنه لن يخلق توافدًا عدديًا على الموقع الأصلي، وبالتالي سيؤدي لهبوط شديد في الإعلانات وتباعًا انخفاض في الأرباح، وهو ما يدفع فيسبوك حاليًا للعمل على نموذج حسابي يقوم لتقسيم العائد على موقع فيسبوك من توافد قراء الصحف، ومشاركته مع المواقع الأصلية وإلا اختفت مع الوقت.
“فيسبوك يحاول البحث عن وسيلة ليصبح هو بشكل ما الصفحة للأم للإنترنت، أو بيتك الإلكتروني الذي تعيش فيه ثم تنطلق منه حيث شئت، ولكن المشكلة للناشرين هي أنهم سيصبحون تحت رحمة إدارة فيسبوك مع الوقت، وكأنهم يستأجرون مكتبًا في مبنى يملكه مارك زوكربرج، كما أن كافة المعلومات ستكون بقبضة فيسبوك”، هكذا يقول ريتشارد سميث، مدير مركز الإعلام الرقمي في مدينة فانكوفر بكندا.
بطبيعة الحال، لا تستطيع الصحف الآن مقاومة فكرة جذب الملايين من زوار فيسبوك لتعزيز أعداد قرائها، ولكنها على المدى البعيد ستقلّص من استقلالية إدارة صُحُفها بشكل كبير لصالح فيسبوك، وسيصبح فيسبوك لاعبًا جديدًا في عالم الصحافة بجانب لاعبين تقليديين كالساسة ورأس المال، كما سيُملي الموقع الحصة التي يرغب في الحصول عليها وسيضغط على الصحف بالطبع التي قد تعاني ماليًا.
بالإضافة إلى ذلك، يعتمد فيسبوك على مكانته باعتباره ميدانًا عالميًا، وهو ما يعني أنه في الحقيقة لن يكون مفيدًا للصحف المحلية أو الإقليمية التي تركز على مدينة أو حي واحد، وبالتالي فإنها تنتقي شريحة معيّنة من القراء لا يسع انتقاؤها عبر وسائل التواصل الاجتماعي العمياء جغرافيًا إن جاز القول، والتي تخلق بالكاد ساحات مختلفة لذوي اللسان الواحد ليس إلا.
بدورهم، يقول أنصار الخطوة إن الصحف أصلًا تعاني من هيمنة أصحاب المصالح عليها، وإن دخول فيسبوك، كمنبر أفقي أكثر ديمقراطية سيخلق ضغطًا على تلك الصحف بشكل إيجابي لا سلبي، وسيتيح للقراء المشاركة في تشكيل الصحافة بشكل أكثر من ذي قبل، لاسيما وأن الآليات المختلفة الموجودة على فيسبوك قد تفتح الباب لنوع من الصحافة التشاركية التي يكتبها الناس، مما يعني أن ظهور كتاب جدد وأصوات جديدة سيكون مرهونًا فقط بعملية ديمقراطية هي “لايك”، بدلًا من خضوعه لسياسات دار نشر ما أو غيرها، وكل ما هنالك أن عمالقة الصحافة التقليدية يخشون من تلك الثورة الديمقراطية ليس إلا، ويتذرعون بحماية الصحافة من فيسبوك.
يأتي الرد سريعًا من فليكس سالمون، أحد الكتاب بموقع سليت Slate، والذي يقول إن مساوئ تطور كهذا ستكون التخلي عن الدقة التحريرية، فدمقرطة الإعلام بهذا الشكل ستفتح الباب أمام غير متخصصين، كما أن التلاعب بالحسابات وضغط “لايكات” زائفة كلها تنتمي لشخص واحد سهل جدًا؛ مما يجعل الصحافة الفيسبوكية أمرًا شديد السيولة.
“ما يحدث الآن للصحافة هو أشبه بما جرى لعالم الموسيقى والغناء في عام 2003، حين أطلق ستيف جوبز، مؤسس شركة آبل، برنامج آي تونز، والذي أصبح منبرًا عملاقًا قائمًا بذاته اليوم للموسيقى، فيسبوك الآن يحاول أن يصبح آي تونز الصحافة والأخبار، وهو في طريقه لذلك بالفعل”، هكذا يقول مات يورو، الصحافي بمجلة تايمز.
ما إذا كانت تلك التجربة ستحمل إيجابيات دمقرطة المجال العام كما يبشّر أنصارها، أم سيولة الصحافة والإعلام وتلاشي عملية الكتابة والتحرير التقليدية القيّمة، هو أمر ستكشف عنه الشهور القادمة، والتي ستخرج فيها للضوء تجربة نيويورك تايمز مع فيسبوك، بل وقد يتبعها بازفيد BuzzFeed وناشونال جيوغرافيك National Geographic طبقًا لبعض الأنباء، بما سيتيح للكثيرين رؤية واقع هذا النموذج على الأرض، وتقييم آثاره على الإعلام والصحافة.