ذكرنا في المقالات الماضية أن الاستشراق وُلِد من رحم المواجهة الإسلامية الغربية، وعاش طفولته في عصر الحروب الصليبية، ونضج واشتد ساعده في عصور الاستعمار، وأنه وبرغم نضجه ظل معاديا للإسلام لأنه ابن بار للغرب وأهدافه الاستعمارية.. لكن شيئا مفاجئا وقع عُقَيب عصر الاستعمار، وهو إعلان “موت الاستشراق”!!
فكيف كان هذا؟!
منذ أربعين سنة، وتحديدا عام (1973م) عقد المستشرقون في باريس مؤتمرهم العالمي الدوري، وفيه اتفقوا على التخلص من كلمة “الاستشراق” و”المستشرق” وعلى أن يستبدلوا بها وصفا آخر، فجعلوا اسم المؤتمر “المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال إفريقيا”، وصار الشائع في اصطلاحاتهم من بعدها كلمات أخرى مثل “الدراسات الشرقية”، “دراسات الشرق الأدنى”، “الدراسات الشرق الأوسطية” “دراسات المناطق”… إلخ. وكتب برنارد لويس -وهو من أساطين المستشرقين وشيوخهم- يؤيد ما فعله المؤتمر لأن كلمات الاستشراق والمستشرق صارت ملوثة[1]!
لكن بعض المفكرين مثل عبد الرحمن بدوي –الفيلسوف المشهور، والذي لم يكن في ذلك الوقت متدينا ولا منحازا للإسلام- رأى في قرار إنهاء مؤتمر الاستشراق مؤامرة صهيونية قادها برنارد لويس لوأد هذا المؤتمر الذي يكشف عن الوجوه الزاهرة للحضارة الإسلامية، وقد حاول جهده –ومعه إبراهيم مدكور- وآخرين إيقاف محاولة وأد المؤتمر والتصدي لفكرة إلغائه التي تزعمها برنارد لويس ومجموعة المستشرقين اليهود في هذا المؤتمر المنعقد في باريس، إلا أنهما لم ينجحا، وتحدث بدوي بألم ومرارة وحزن شديد عن انتهاء هذا المؤتمر. وكتب في مذكراته يقول: “تولى تدبير هذه المؤامرة برنارد لويس بحماقته واندفاعه وتهريجه، يعاونه يهودي آخر يُدعى بَشَم Basham وهو إنجليزي الجنسية ومتخصص في الدراسات الهندية. واستطاعا التأثير في رئيس المؤتمر وهو الأستاذ فيلوزا Filliozat المتخصص في الدراسات الهندية، وهو عالِم مهذب الأخلاق لكنه ضعيف الشخصية، فاستطاع ذانك الخبيثان: لويس وبشم استدراجه إلى مؤامراتهما الدنيئة. وهكذا قرر الثلاثة ومعهم باقي أعضاء “الاتحاد الأكاديمي الدولي” وهو المشرف على عقد مؤتمرات المستشرقين – حلّ مؤتمر المستشرقين وتجزئته إلى عدة مؤتمرات خاصة، أطلق على المتعلق منها بالدراسات الإسلامية والعربية اسم “مؤتمر العلوم الإنسانية للشرق الأدنى وشمالي إفريقية” وهو عنوان سخيف طويل ثقيل يدعو إلى الخلط والغموض في هدفه وموضوعاته. ولهذا ولعدم فهم المؤسسات التي دعيت فيما بعد لإيفاد مندوبين عنها – بعثت هذه المؤسسات بمن لا شأن لهم أبدا بالدراسات العربية والإسلامية بالمعنى الذي كان مفهوما من مؤتمرات المستشرقين، فكانت مهزلة ما بعدها مهزلة لما أن عقد المؤتمر في المكسيك ثم في اليابان. وبهذا لم يبق أي أثر لمؤتمر المستشرقين المعروف منذ أكثر من مائة سنة. وعلى هذا النحو تحقق الهدف الأصلي الذي كان يستهدفه أولئك الصهاينة الخبثاء: برنارد لويس، وبشم، ومن وراءهما من المؤسسات الصهيونية العالمية!!”[2].
وهذه الإضافة من بدوي –الذي كان حاضرا للمؤتمر، ولم يكن ساعتها متدينا أصلا- تقول بأن إنهاء مؤتمر المستشرقين هو في حقيقة الأمر خطوة “استشراقية” بعدما بدا أن المؤتمر ينحرف عن أهداف الاستشراق الأصيلة، وأن حركة نضوجه تسير باتجاه إبراز أمجاد الحضارة الإسلامية ووجهها الزاهر. ومن ثَمَّ استطاعت حركة الاستشراق –في وجهها السياسي- السيطرة والتحكم في الوجه العلمي للاستشراق ومنعه من النمو بما يخالف الأغراض.
لكن يبقى السؤال.. هل انتهى الاستشراق؟
الواقع أن هذا لم يحدث بأي وجه من الوجوه، فما زالت ثوابت الاستشراق وهياكله كلها قائمة، بل تزيد وتتطور، فالمؤسسات والمعاهد والأقسام ما تزال تدرس وتبحث أحوال الشرق، والباحثون في الشرق لا يفتأون يكتبون ويختلفون إلى الشرق أو يقيمون فيه، وما تزال الأموال تنفق على هذه البحوث، وما يزال صانع القرار يعتمد على الخبراء والمراكز البحثية المتخصصة في الشرق. بل والأكثر من هذا أن التعصب الغربي ضد الإسلام ما زال موجودا، كذلك “ما زالت الكتب تكتب وما زالت المؤتمرات تعقد حول “الشرق” باعتباره الموضوع الرئيسي، وهي التي تقيم حججها على ما قاله المستشرقون القدماء أو المحدثون باعتبارهم موضع الثقة”[3].
وغاية ما يُقال في انتهاء الاستشراق هو انتهاء صورته القديمة، وتجاوز بعض الآراء القديمة التي لم تعد صالحة، وكلا الأمرين صادران عن تطور واحد: هو ثورة المعلومات والاتصالات، وهو أمر ليس جديدا كليا، فقبل نحو نصف قرن كتب د. مصطفى السباعي أنه في حوار له مع المستشرق نيبرج -وكان ذلك في السويد- ذكر له طرفا من أخطاء المستشرقين، وبالتحديد جولدزيهر، فقال له نيبرج: “إن جولدزيهر كان في القرن الماضي (التاسع عشر) ذا شهرة علمية ومرجعا للمستشرقين، أما في هذا العصر -بعد انتشار الكتب المطبوعة في بلادكم عن العلوم الإسلامية- فلم يعد جولدزيهر مرجعا كما كان في القرن الماضي.. لقد مضى عهد جولدزيهر في رأينا”، وهذا القول حمله الشيخ السباعي على أنه خاص بالدول الغربية غير الاستعمارية كالدول الاسكندنافية[4]، ومثله قال د. مازن مطبقاني قبل سنوات معدودة: “وقد تحقق لي بعض النجاح في هذه الزيارة كما أنني التقيت عددا منهم في رحلات علمية أخرى وفي بعض الندوات والمؤتمرات التي تيسر لي حضورها في السنتين الماضيتين، وهم ليسوا سواء فالتعصب الشديد مازال يسيطر على البعض بينما تخلص بعضهم الآخر من موروثات الاستعمار والحقد والتعصب”[5].
الاختلاف أن الاستشراق لم يعد يستطيع أن يقوم بدور تشويه الإسلام بين عموم الجماهير بخرافات مثل: صنم محمد المحلى بالجواهر، أو المعلق في السماء، أو الذي يبيح الزنا واللواط، أو الذي كان كاردينالا مسيحيا ثم هرب بعد خلاف مع الكنيسة ليؤسس مذهبا جديدا يضرب به المسيحية… إلى آخر هذه الخرافات التي عاش عليها الاستشراق أمدا طويلا في العصور الوسطى الأوروبية، والتي ما كان لها أن تنتشر لولا الجهل المخيم بين الغربيين وصعوبة الوصول إلى معلومات من مصادر أخرى غير المستشرقين آنذاك. أما الآن فبعد استقرار الاستشراق علميا وموضوعيا لم يعد يصلح في مخاطبة الجمهور، لأن الجمهور تحركه الخطابات البسيطة الشعبوية، بينما لا تسمح قواعد البحث العلمي التي صارت من التقاليد المرعية أن ينزلق الخطاب الأكاديمي إلى الأكاذيب الفجة.
أما في جانب دراسة الشرق بغرض الهيمنة عليه واستمرار التحكم فيه وتقديم خلاصات الرأي للسلطة، فهو جانب يزدهر وينمو ويزداد تفرعا وتخصصا، وسنعرض لبعض صوره الجديدة في المقال القادم بإذن الله تعالى.
[1] د. مازن مطبقاني: هل انتهى الاستشراق حقا؟، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الكويت، العدد 43، ص281 وما بعدها.
[2] عبد الرحمن بدوي: سيرة حياتي 2/255.
[3] إدوارد سعيد: الاستشراق ص45.
[4] د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص72 وما بعدها.
[5] د. مازن مطبقاني: من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب، ص23.