هذا ختام رحلة الاستشراق، والتي بدأت حين وُلد من رحم المواجهة الإسلامية الغربية، وعاش طفولته في عصر الحروب الصليبية، ونضج واشتد ساعده في عصور الاستعمار، ورأينا كيف أنه وبرغم نضجه ظل معاديا للإسلام، ثم تعرضنا لما قيل عن موت الاشتشراق وانتهاء مرحلته.. والآن ننظر فيما بقي منه وما الذي حلَّ محلَّه!!
وقد ذكرنا في المقال الماضي أن غاية ما يُقال في انتهاء الاستشراق هو انتهاء صورته القديمة، وتجاوز بعض الآراء القديمة التي لم تعد صالحة، وكلا الأمرين صادران عن تطور واحد: هو ثورة المعلومات والاتصالات، فلم يعد يستطيع الاستشراق قادرًا على القيام بدور تشويه الإسلام بين عموم الجماهير بخرافات مثل: صنم محمد المحلى بالجواهر، أو المعلق في السماء، أو الذي كان كاردينالا مسيحيًا ثم هرب بعد خلاف مع الكنيسة ليؤسس مذهبًا جديدًا يضرب به المسيحية… إلى آخر هذه الخرافات التي ما كان لها أن تنتشر لولا الجهل المخيم بين الغربيين وصعوبة الوصول إلى معلومات من مصادر أخرى، أما الآن فبعد استقرار الاستشراق علميًا وموضوعيًا لم يعد يصلح في مخاطبة الجمهور، لأن الجمهور تحركه الخطابات البسيطة الشعبوية، بينما لا تسمح قواعد البحث العلمي التي صارت من التقاليد المرعية أن ينزلق الخطاب الأكاديمي إلى الأكاذيب الفجة.
أما في جانب دراسة الشرق بغرض الهيمنة عليه واستمرار التحكم فيه وتقديم خلاصات الرأي للسلطة، فهو جانب يزدهر وينمو ويزداد تفرعًا وتخصصًا، بل إن فارق القوة بين الشرق والغرب تجعل كثيرًا من تقارير مراكز البحوث الاستشراقية تُعلن وتُقرأ في الشرق في ذات اللحظة التي تُقرأ فيها في الغرب، ولا تستخفي توجهاتها، بل صار طبيعيًا أن يصدر – مثلاً – تقرير من مؤسسة راند يتحدث عن “بناء شبكات إسلام معتدل” أو “كيف تنتهي الجماعات الإرهابية”، وأن تكون خريطة التقسيم الجديدة للعالم العربي التي أرساها برنارد لويس منتشرة في العالم العربي، وأن يضع جيل كيبل خريطة الحركات الإسلامية بعد تطواف في العالم العربي، وأن يتحدث أوليفيه روا بصراحة ووضوح عن إرادة السيطرة والتحكم في العالم الإسلامي، والأمثلة كثيرة ومشهورة ومتجددة في كل يوم!
الحقيقة أن الذي يبحث في الواقع الإسلامي لن يجد في المصادر المكتوبة بالعربية ما يجده في المصادر الأجنبية شمولاً ودقة [1]، ويكفي أن تعلم أن موقع “كتاب الحقائق The Fact book” وهو صفحة من موقع المخابرات الأمريكية، يعطي تصورًا دقيقًا عن حال كل البلدان: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية واللغوية، وهو مبذول للجميع، كذلك فإن هيئة كبرى مثل صندوق النقد الدولي لها إحاطة بالدقائق الاقتصادية للبلدان، حتى إن “توصياتها” بالإصلاح الاقتصادي لبلد ما تصدر في مجلدات، وتعتمد على تفصيلات دقيقة للموارد والإنفاق والهيكلة الاقتصادية للبلد.
فإذا كان الـمُعلن المعروف المبذول للناس يحتوي هذا القدر، فكيف بالتقارير والتوصيات السرية التي تبقى في الأروقة والدهاليز؟!!
أما في جانب رسم صورة جماهيرية للإسلام والشرق، فقد ذهب دور الاستشراق وأتى دور الإعلام، أو بالأحرى: تراجع دور الاستشراق ليقوم بدور الإلهام والمرجعية في خلفية المشهد، بينما يقوم الإعلام (صحافة، تلفاز، انترنت…) والفنون (أفلام، مسلسلات، روايات، أغاني…) بدور الاستشراق القديم: ترويج الأكاذيب الفجة عن الإسلام والمسلمين، وقد أتيح لها في عصرنا زخارف وأساليب تأثير وترويج مبتكرة وغير مسبوقة [2]، وهذا هو الموضوع الذي أفرد له إدوارد سعيد كتابه “تغطية الإسلام”.
إن ما شهده المجال الفني من تطور جعل مؤرخ الفن المعروف أرنولد هاوزر يطلق على التاريخ الاجتماعي للفن في القرن العشرين لقب “عصر الفيلم”، بل حمل لينين على القول بأن “السينما هي أهم الفنون بالنسبة لنا”، ويتذكر الجميع كيف نظر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى الممثل الأمريكي الشهير شين كونري – وهو الذي قام بتمثيل شخصية جيمس بوند – قائلاً له: “لولاك ما كسبنا الحرب الباردة” [3].
إنه تأثير ليس بوسع باحث جاد أن يتجاهله وهو يرصد حركة المجتمعات، ومن أهم ما يمكن ضربه من أمثلة هنا هو الفصل الذي أفرده جوزيف براودي ضمن كتابه “العراق الجديد”، والذي يحلل فيه تطور المجتمع العراقي بعد الحرب الأمريكية (2003م)، وأسماه “إعادة تصوير المشهد البابلي: السينما العراقية ونشاطات الترفيه والتسلية”، وكيف يتحول المجتمع بتأثير الفن الذي كان مصريا خالصا بادئ الأمر، حتى انتهى إلى المجهودات الأمريكية في استخدام الإعلام لتسويق نفسها للعراقيين [4]، ولقد توقع الصحفي البريطاني المعروف روبرت فيسك “أن تصبح السينما الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نستعين بها في التأثير على العالم” [5].
ولقد نشر الباحث الأمريكي من أصل لبناني جاك شاهين كتابه: “العرب الأشرار في السينما: كيف تشوه هوليود شعبا” [6] في عام 2001، ومن قبله في مجلة الأكاديمية الأمريكية للسياسة والعلوم الاجتماعية، وهذه الدراسة ترتكز على أكثر من تسعمائة فيلم منذ عام 1896، فكانت النتيجة صورة في الغاية من التشوه والسوء.
وقد كشفت مذكرة صادرة عن النقيب روكسي ت. ميريت – مدير العمليات الصحافية في البنتاجون – عن أسلوب خطير اعتمد مؤخرًا، فقد قالت المذكرة: “بات للمحللين الإعلاميين تأثير أكبر فأكبر في تغطية الشبكات الإعلامية التليفزيونية للمسائل العسكرية، وباتوا الآن الأشخاص الذين يُقصدون ليس فحسب من أجل المواضيع الطارئة، بل لأنهم يؤثرون أيضًا في وجهات النظر حيال المسائل، ولديهم أيضًا تأثير كبير في المواضيع ذات العلاقة بالجيش التي تقرر الشبكة تغطيتها استباقيًا، وأنا أوصي بإنشاء مجموعة أساسية من ضمن لائحتنا من المحللين الإعلاميين ممن يسعنا الاعتماد عليهم لنقل أفكارنا، فنزودهم معلومات أساسية وقيمة ليصبحوا الأشخاص الأساسيين الذين يجب على الشبكات أن تقصدهم وتشرع بنفسها في اجتثاث المحللين الأقل ركونا إليهم والأقل ودا”[7].
“إن الاستشراق الإعلامي أكثر خطورة على جمهور القراء من الاسشتراق الأكاديمي الذي لا يقرؤه إلاّ المتخصصون، وإن كانت الخطورة في المادة الأكاديمية أشد لوصولها إلى أعلى مراكـز القرار السياسي في الولايات المتحدة وفي أوروبا، ولكن ما حدث أن بعض المستشرقين أصبحوا من الكتاب الصحافيين ومن الذين يلجأ إليه الإعلام للحديث عن القضايا الإسلامية” [8].
وإذن، فالقائل بانتهاء الاستشراق أو موته أو “ما بعده” إنما يصدق قوله على الجانب الجماهيري المباشر، بينما بقاء الاستشراق كمحدد لوجهة النظر الغربية تجاه الإسلام، وكمؤسس لخطط الهيمنة والسيطرة السياسية، فهو قائم ويزدهر، بل لعله يعيش الآن أزهى عصوره قاطبة!
[1] حدثني أحد المقربين من الرئيس محمد مرسي – حفظه الله وفك أسره – عن أنهم لم يجدوا في مصر خريطة لانتشار المعادن في ظل محاولة وضع خريطة اقتصادية لمصر، بينما استطاعوا بعد لأي شراء هذه المعلومات من مؤسسات أمريكية تتاجر بالمعلومات!
[2] انظر: د. مازن مطبقاني: بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ص 61 وما بعدها.
[3] يحيى عزمي: التطور التكنولوجي لفن السينما عبر مائة عام، ضمن “حصاد القرن”، تحرير: محمد شاهين، وإشراف: فهمي جدعان، ص 320.
[4] جوزيف براودي: العراق الجديد ص 247 – 265.
[5] روبرت فيسك: زمن المحارب ص 171.
[6] Reel Bad Arabs: How Holly wood vilifies a people
[7] مايكل أوترمان وآخران: محو العراق ص 148.
[8] د. مازن مطبقاني: بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ص 64، 65.