بعد أن طالعنا في المقالات السابقة رحلة الاستشراق: ولادته، وطفولته، ونضوجه، وموقفه من الإسلام، وما قيل عن موته، وتجدده. ثم طالعنا حصاده: إنجازاته وإخفاقاته، ينبغي علينا أن نتوقف أمام سؤال: كيف نستفيد من تجربة الاستشراق ونحن نحاول التأسيس لعلم الاستغراب [1]؟
لقد كشفت تجربة الاستشراق عددًا من الحقائق ينبغي أن نتنبه لها، أهمها كما نراه:
1. لم تعد نشأة العلوم ممكنة بمجهود الأفراد، بل لا بد من مجهود المجامع والمؤسسات، والتعاون وتبادل الخبرات.
2. لئن لم تحظَ العلوم بدعم من أصحاب السلطة والحكم فإنها لا تتطور، والحاكم الحصيف من يستعين بالعلم والعلماء في أموره ومصالح دولته.
3. التهديد الوجودي يثير في الأمم عوامل الانبعاث والتحدي على نحو ما لاحظ أرنولد توينبي في نظريته الشهيرة عن “التحدي والاستجابة”.. وأمتنا مؤهلة للمرحلة القادمة بما تمور به من أحداث وبما توقن من وعد الله ورسوله أنها منتصرة وأنها لن تهلك لا بسنة عامة ولا بعدو يستأصل شأفتها.
4. التهديد الوجودي يثير في الأمم الخوف والفزع ويحملها على شيطنة عدوها وتصوره على أسوأ ما يكون، فإذا تم لها النصر أو زال الخطر عاد إليها التقييم الهادئ والنظرة المتزنة، وأمتنا لا ينبغي لها أن تنزل هذا المنزل ليقينها بأنها لن تهلك، ولما يأمرها به دينها من العدل والإنصاف حتى مع العدو، ولما تملكه من عقيدة راسخة وكتاب منزل معصوم يصف لها طبيعة المعركة وطبيعة العدو وطريق التعامل معه، فمن ثَمَّ لا تحتاج إلى فزع يفضي إلى الشيطنة ورمي العدو بما ليس فيه، ولا تحتاج إلى خوف يرى في أي خطأ صدر عن أي مستشرق نوعًا من مؤامرة أو جزءًا من تدبير رهيب وغرض مقصود ووضع للسم في العسل، بل يوزن المرء بمجموع عمله بغير إفراط ولا تفريط، ويوضع خطأه في قدره ومكانه بدون مبالغة أو تساهل.
5. مرحلة النصر والتفوق تعطي ثقة بالنفس واطمئنانًا ورغبة حقيقة في الاطلاع الحقيقي على ما عند المخالف، ولذلك لم نرَ شيئًا إيجابيًا في تاريخ الاستشراق إلا بعد أن تم لهم تركيعنا وإخضاعنا عسكريًا وسياسيًا، وأمتنا ينبغي أن تكون في كل الأحوال – وإن تحت الهزيمة العسكرية والهيمنة السياسية – واثقة من نفسها ومطمئنة لما لديها، فتبصر – وهي في لحظة الهزيمة – ما عند عدوها من نقاط القوة – في العلوم والفكر – لتستفيد منه، فيعصمها الاطمئنان والثقة من الوقوع في أسر تقليد الغالب، ولا يصرفها النفور والمقاومة عن التعلم والاستفادة حتى من عدوها، فنحن من أمة علمها نبيها أن تتعلم ولو من الشيطان إن صدق، فيما العهد به أنه كذوب!
6. الانطلاق من مسلمات لا تبلغ درجة الحقائق الراسخة يفضي إلى سوء فهم وتصور، ومن ثم سوء عمل وتصرف، وعليه فينبغي على الداخل في مجال الاستغراب أن يكون على بصيرة من تصوراته وأفكاره ومنطلقاته، وإن الانطلاق من الإسلام سيعصمنا من تصورات عنصرية وعرقية خاطئة، إذ لا تقديس إلا للفكرة والعقيدة، وهو مجال حاكم مطلق لا يتعلق بطبيعة بشرية أو تصنيف جغرافي أو عرقي، وأصول الإسلام محفوظة في القرآن والسنة، وثوابته محفوظة بالإجماع، وإذا ما رسخت هذه الضوابط كان ما بعدها من مساحات النظر والتفاعل في المسائل المستحدثة أرشد وأيسر.
7. إن من أهم ما نستفيد من تجربة الاستشراق هو ضرورة الانعتاق والتخلص من شبح الحيادية الوهمي الذي سوقته الدعاية الغربية والذي لم يكن يتمتع بأي رصيد في الواقع العملي، وأبرز ما يشهد لهذا هو الإنتاج الاستشراقي نفسه، فالحياد في الحقيقة غير واقعي وغير ممكن، الواقعي والممكن هو بذل المجهود في “فهم الآخر” كما هو الآخر، مع بقاء مسافة لازمة للحكم والتقييم.
8. ثمة مناطق شديدة الخصوصية لدى الأمم كاللغة والثقافة، وهذه تحتاج إعدادًا خاصًا وعدة خاصة قبل الإقدام على دراستها.
9. ضرورة التخلص من لوازم الاستشراق وآثاره الفكرية التي شاعت بأثر التفوق الغربي مثل:
– المفاهيم العلمية المغلوطة مثل “عصر الكشوف الجغرافية” الذي يعتبر اكتشاف أفريقيا والأمريكتين كأنما هو بداية الوجود، وهي نظرة ذاتية متطرفة، فأفريقيا والأمريكتان وسكانهم موجودون من قبل هذه الحقبة ولا يؤثر في وجودهم كونهم “لم يُكتشفوا” من قبل الأوروبيين، “كما أن الأوروبيين بالنسبة للهنود الحمر وسكان أفريقيا لم يكونوا موجودين من قبل حلولهم سواحل أمريكا وأفريقيا، طبقًا للمنطق الأوروبي للاستكشافات الجغرافية”، ومثل هذا تسميات “الحرب العالمية الأولى والثانية” وهي حروب أوروبية.
– تقسيم التاريخ إلى عصور بعين أوروبية على نحو: العصور القديمة (اليونان والرومان) والعصور الوسطى (اليهودي والمسيحي والإسلامي) والعصور الحديثة، وهو ما يمكن أن تفعله كل حضارة إذا وضعت نفسها في المركز، وفي هذه التقسيمة إنكار لدور الحضارات القديمة وكأن تاريخها سابق على تاريخ البشرية.
– تقسيم المجتمعات بعين ونفسية غربية إلى: حضارية وبدائية، أو متقدمة ومتخلفة، أو صناعية وزراعية، أو عقلية وأسطورية، أو موضوعية وذاتية، وقد وجدت كل هذه التقسيمات صياغاتها المتطرفة في النظريات العنصرية وتقسيم الشعوب إلى آرية وسامية في العلوم الإنسانية خاصة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الحضارات وفلسفة التاريخ [2].
***
إن انطلاقنا من الإسلام الذي لم يكن جغرافيًا ولا عرقًا ولا لغة يتيح للمسلمين نظرة إنسانية شاملة، وكوننا لا نرى الإسلام بدأ في لحظة متأخرة – بل هو دين الله الذي نزل به آدم إلى الأرض، وما سواه انحراف عنه – يعصمنا من نزوع نحو التميز الخاص أو النظر إلى باقي البشر وكأنهم من جنس آخر غير بني آدم، وكذلك فإن ديننا الذي يحملنا على دعوة الناس سيعصمنا من أسباب التكبر عليهم.
كما أن انطلاقنا من الواقع الذي يشهد ويحكم بأننا لسنا طليعة غزو للغرب، سيجعل الاستغراب أكثر تحررًا وموضوعية وانفتاحًا من قوم كانت مهمتهم في صلبها هي التعرف على هذه البلاد تمهيدًا لافتراسها، ثم إن ما لدينا من دين يأمر بالتعارف والدعوة إلى الله يجعل الأمر أحسن إنسانية وأقرب صدقًا وصداقة من قوم هم طليعة غزو وحرب، فلا تقع عينهم إلا على نقاط الضعف ولا ينظرون إلى أولئك القوم إلا كنظرة الأعداء.
[1] لقد نشرنا على هذا الموقع نبذات موجزة عن تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلم – الدعوة – التعاون – المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2).
[2] د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص 39 وما بعدها.