عند سماع معظمنا لكلمة “شعبي” أول شيء يتطرق لأذهاننا هي الأغاني التي يستمع إليها سائقي وسائل النقل العامة ومجموعة من الأفلام تعرضها السينمات كل موسم، نستخدم كلمة “شعبي” أيضًا كمرادف لكل ما له علاقة بالطبقة الفقيرة أو الكادحة فنقول “فرح شعبي” و”شارع شعبي” وهلم جرّا. لكن في الحقيقة، لكلمة “شعبي” معني أوسع وأغنى من هذا بكثير.
الشعبي هو الفلكلور، مجموعة من القصص والأغاني والأساطير والموسيقي والأمثال والعادات مجهولة المؤلف أو المنشأ، فبطريقة ما، من ألفها ليس شخصًا بعينه لكن شعبًا بأكمله.
للشعبي وجوده العميق في حياتنا، في كثير من تفصيلاتها البسيطة، سرداب خفي محفور أسفلنا نستمد منه الكثير من تعبيراتنا، في الكلمات التي نستخدمها بشكل يومي نعبر عن أحداث كثيرة حدثت في عصور سحيقة، كأن حاضرنا طبقة هشة من الجليد يجري تحتها بحر واسع من الماضي، كل رمضان نمسك فوانيسنا ونغني “وحوي يا وحي إياحة” تلك التي قالها المصريون بطريقة مختلفة قليلًا منذ آلاف السنين للملكة إياح حتب في الشوارع بعد فوز ابنها أحمس على الهكسوس، انطلقوا في الشوارع يهتفون “واح واح إياح” والتي تعني “تعيش عيش إياح”، كثير ما ننادي و نقول “يا خراشي” ونحن نجهل أن هذا الخراشي الذي ننادي عليه هو بالفعل شخص حقيقي اسمه الإمام محمد بن عبد الله بن علي، وُلد في البحيرة عام 1010 هجرية في بلدة أبو خراش فنسُب إليها وسُمي بالإمام الخراشي، الإمام الخراشي كان رجل دين عُرف بالورع والتقوي والعدل، كان لا يخشي ظالم ولا يترك مظلوم إلا وسانده ولهذا كان يستنجد به الناس في أوقات الشدة وينادون “يا خراشي”.
نصف الحكم الظالم بأنه “حكم قراقوش” وقراقوش أيضًا شخص حقيقي تولى حكم مصر إبان ولاية صلاح الدين الأيوبي، كانت له الكثير من الإنجازات المهمة منها على سبيل المثال لا الحصر بنائه لقلعة المقطم، السبب وراء صورتنا الذهنية السلبية للغاية عنه هو و وقوعه في خلاف مع أحد الشعراء اسمه ابن أسعد المماتي وكانت النتيجة أن المماتي ألف كتاب “الفاشوش في حكم قراقوش” الذي شوه فيه قراقوش تمامًا وصوره في صورة الحاكم الظالم الذي يطالب شعبه بمطالب غير منطقية، ويممكنا أن نعتبر هذا واحد من أقدم الأمثلة علي ما اصطلحنا تسميته بـ “الإعلام الفاسد”.
بخلاف تواجده الدائم في حياتنا فللشعبي وظيفة أخرى مهمة وهي كشف نفسية الشعوب، دعنا نسأل هذا السؤال، إن أردت أن تعرف أكثر عن شخص ما هل تفتش في غرفة الاستقبال أم ستدخل غرفة النوم وتفتح الدواليب؟ القصص الشعبية هي تلك الدواليب الواسعة التي إن بحثنا فيها سنجد الكثير عن أنفسنا، هي ذلك الحلم الذي حلمناه سويًا ولهذا فإن فككنا رموزه سنجدها تنطق بالكثير عنا، لعل هذا ما حدا بعالم النفس الأشهر سيجموند فرويد صاحب مقولة “الأحلام هي الطريق الذهبي للاوعي” إلى تسمية عقدة أوديب وعقدة إليكترا – اثنتين من أهم العقد النفسية – على اسم أسطورتين إغريقيتين.
هناك قصص شعبية مشتركة ما بين ثقافات مختلفة مثل قصة سندريللا التي تكاد لا تخلو من نسخة منها تقريبًا أي حضارة قديمة – أول النسخ المعروفة ترجع للحضارة الفرعونية – والتي لا زلنا نجد قصص حديثة تلعب على نفس تيمتها مثل مسرحية الملك لير لشكسبير وجاين أير لتشارلوت برونتي، على العكس من سندريللا لبعض القصص الأخرى خصوصية حضارية تعكس حادثة تاريخية تعرض لها شعب بعينه مثل قصة “هانسل و جريتل” التي نشأت في ظروف مجاعة تعرضت لها أوروبا الشمالية وامتدت عامين من 1315 وحتي 1317 والتي لشدتها ترك الآباء للأبناء مسؤولية إطعام أنفسهم وفيها تم تسجيل أكثر من حالة أكل لحوم بشر، قصة سندريللا وهانسل وجريتل وغيرها الكثير توجد في كتاب الأخوان جريم المنشور عام 1812 والذي يعتبر من أهم الكتب التي جمعت حكايات أوروبا – وخاصة ألمانيا -الشعبية.
في الشرق، سنجد كتاب “ألف ليلة و ليلة” يلعب نفس الدور الذي لعبه كتاب الأخوين جريم في الغرب من توثيق القصص الشعبية العربية والفارسية والهندية والمصرية والعراقية في ألف وواحد حكاية هي جزء من حيلة لعبتها المرأة في تحويل هوايتها (الحكي) لعمل ملحمي انتصرت به على جبروت الرجل، حكايات ألف ليلة وليلة سافرت العالم بأجمعه وأثرت على الكثير من مبدعيه مثل ريمسكي – كورساكوف الذي ألف سيمفونية شهرزاد والذي لا يتردد علي سمع أحدنا اليوم اسم ألف ليلة و ليلة إلا وسمع صولو الكمان الخاص بها يُلعب في رأسه كأروع مثال على التفاعل الحضاري.
الشعبي في النهاية ليس مجموعة من الأغاني والأفلام منزوعة القيمة الفنية ولا هو شوارع وأحياء فقيرة، الشعبي هو الخيط الخفي الذي يربط كلاً منا بالآخر والجذر الذي يشدنا إلى الأرض التي عليها نحيا.