هنا تجد نفسك في معضلة كبيرة وخاصة اذا كنت تريد الترويج لافكار مختلفة عن النمطيات التي يتداولها “المثقفون” والاعلاميون والسياسيون.
في معظم كتاباتي اجد نفسي ادندن حول هذا الوتر، الا وهو التغيير والسبيل اليه، ولعل السبب هو طريقة تعايشي مع المجتمع الذي انتمي اليه، والذي يعاني من الكثير من المشاكل العميقة والمتأصلة في كونه عدو نفسه، ولكثرة ما أعانيه افضل احياناً أن لا اختلط كثيراً معهم خشية ان أتلوث بعقلياتهم الجاهلية وخشية أن يظن البعض بي مغروراً يرى نفسه المبعوث الرسمي لإنقاظهم مما هم فيه! ولكن لا مفر من اطلاق العنان لهذه الافكار من حين لاخر فلعلها تجد من يستوعبها ويبني عليها. فالتغيير كالبذرة الصغيرة التي يلقيها احدهم في ارضٍ خصبة فتجد من يرعاها ويسقيها لتنمو وتكبر وتزهر بالخير على المجتمع باسره.
لا يخفى على أحد أهمية دور الفرد في بناء مجتمعٍ صالحٍ قادر على انتاج حضارة تعم بالخير والامن والاستقرار، ولكن مهما كانت محاولات الفرد جادة وصادقة في نواياه للتأثير على مجتمعه فانه لن يصل الى غايته الا بالعمل المشترك مع بقية افراد مجتمعه. فالفرد والمجتمع نسيجٌ واحد لا يمكن فصل احدهم من الآخر، وعليه فلابد من تنسيقٍ عملي بين الفرد والمجتمع لتحديد اولوياتهم والتخطيط لاهدافهم. واسبيل الى هذا يكمن في تكوين جماعات صغيرة قابلة للنمو والانتشار، تحمل نفس الافكار الفردية وتسعى الى غاية معلومة وواضحة تحضى بعلاقة جيدة بينها وبين اعضائها من جهة وبينها وبين المجتمع من جهة أخرى.
في كتابه، ميلاد مجتمع، يوضح مالك بن نبي هذه العلاقة ويضع لها نظاماً متكوناً من عناصر ثلاثة: – حركة يتسم بها المجموع الانساني . – انتاج لاسباب هذه الحركة. – تحديد لاتجاهها .
وعليه فإن هذه الجماعة الصغيرة تمهد الطريق لحراكٍ اجتماعي كبير، وتعد الخطط لانتاج هذا الحراك وتصيغ له اولوياته، وبعدها تدرس السبل لقيادة هذا الحراك لكي لا يخرج من اطاره ولا يكون فوضاوياً يضيع جهد المجتمع ويضعه في مشاكل كارثية.
فينظرته الثاقبة يعتبر بن نبي المجتمع كائناً متحركاً مدركاً لاهدافه ويطمح للوصول اليها بشكلٍ جماعي، ولولا هذه الرغبة الجماعية في النهوض والعمل فلا يمكن وصف جماعات الافراد بأنها مجتمع بل مجرد أشخاص لا تجمع بينهم الا الارض التي يعيشون عليها وربمى اللغة وبعض العادات والتقاليد، وهذه الجماعات السكانية التي لا هدف لها هي في الحقيقة كالمجتمعات البدائية في عصور ما قبل التاريخ حيث الهدف الاكبر هو الاكل والشرب واشباع الشهوات، بدون وجود اي هدف جماعي يوحدهم ويدفعهم للتعاون والعمل سوياً.
بالاضافة الى هذا، فإن المجتمع النشيط اما ان يرتقي بنفسه او يهلكها في طريقه الى غايته، وهنا مربط الفرس، فالثورات ما هي لا دفعة تنشيطية للمجتمع، لايقاظه والنهوض به، ولكن المجتمع ان لم يكن له قيادة حكيمة فإن الثورة التي ايقظته قد تقتله وتخمده للابد! وهكذا يكون امام المجتمع خيارات عديدة تصيغها الاحداث المتوالية عليه ولكنه لابد ان يختار، فإما ان يتحرك نحو هدفٍ ما او بعيداً عن خطرٍ ما. وهنا نعود لفكرة الجماعة القائدة للحراك حيث انه لابد منها لتجنب الفرقة وكثرة الصخب ولافكار المتضاربة.
ولكن ماذا لو قرر المجتمع ان لا يختار ولا يتحرك الى او بعيداً عن شيء ما؟ ماذا لو قرر البقاء في مكانه وان لا يغير اي شيء؟ في هذه الحالة يمكن اعتبار هذا المجتمع مجتمعاً في طريقه الى الانهيار والفناء الحتمي، و لتجنب هذا المصير، علينا العمل سوياً لبناء تاريخٍ مشرق نتركه للاجيال امقبلة من خلال التعامل مع العوامل التي تتحكم في صناعة التاريخ والتي ذكرها بن نبي في كتابه ايضاً: – تأثير عالم الاشخاص – تأثير عالم الافكار – تأثير عالم الاشياء
اي ان التاريخ والحضارة التي تصنعه المجتمعات ما هي الا نتيجة للانسان المكافح الذي يقود مجتمعه الى بر الامان ويندمج فيه ويصلح فيه ما استطاع، يليه الفكرة الصائبة والعقليات المخططة للتغيير والابداع وبعدها تأتي المادة والقدرات العلمية والتي تجعل من الاحلام حقائق ملموسة.
مثال هذه العوالم الثلاث نجدها في كتب التاريخ القديم والحديث ولكن لناخذ مثالاً سهلا نوعاً ما؛ الهبوط على سطح القمر مثلاً، هذا الحدث التاريخي كان نتيجة للعمل الدؤوب الذي قامت به ناسا بعلمائها ومفكريها، ولكنه كان فكرة وحلماً وتحدياً بشرياً نطق به كندي مخاطباً بها شعبه، اضافة الى توفر المادة والعلم بها لما تحقق اي شيء. فناسا تتكون من إذاً من افراد وافكار ووسائل علمية تمكنهم من تحقيق اهدافهم.
وعليه فان السبيل لتغيير المجتمع يكون عبر هذه النقاط الثلاث: ١. توحيد الافراد نحو غاية واضحة لابد من الوصول اليها ٢. تواجد مجموعة مفكرة قادرة على معالجة المعلومات ووضع الخطط والاهداف ٣. توفر الامكانيات المادية والعلمية والخذ بالاسباب لتحقيق الغايات.
ولكن ليتحقق هذا، علينا ببناء الافراد القادرين على تحمل هذه المسؤليات أولاً باعادة برمجتهم وتطوير عقولهم ليدركوا انهم عمود المجتمع وان قدراتهم لا يمكن الاستغناء عنها، عبر تغيير الصفات البدائية للفرد من كائن مستهلكٍ كسول الى شخص جادٍ في عمله مخلص فيه مدركاً اهمية العمل في سبيل بناء مجتمعه الفاضل. ولعجزنا عن تحقيق هذافإننا نجد أن معظم اسباب تخلفنا تكمن في هذه النقطة وهي انعدام المسؤلية لدى الفرد وجهله او تجاهله لقيمته في سبيل بناء مجتمعه.
ولعل المشكلة تكمن ايضاً في عدم وجود شبكة قوية من الاحترام المتبادل بين افراد المجتمع. تخيل مثلاً أن خلايا جسمك تحارب بعضها البعض، غير مدركة لدورها الحقيقي في التعايش والتعاون بينها لبناء الاعضاء وترميم الجسد ومحاربة الامراض! لابد من ان هذا الخلل سيفتك بصاحبه إن لم يتدارك الامر ويتعالج بسرعة. ولكننا نعيش هذا التخبط بشكلٍ يومي في مجتمعاتنا ظناً منا بأننا قادرون على العقاء في اكتفاءٍ ذاتي بعيداً عن بقية اعضاء المجتمع وهذا مستحيل وخاصة لو اردت تغيير المجتمع وبنائه والحفاظ عليه للاجيال القادمة.
في واقعنا الاسلامي والعربي خاصة، نجد مجتمعاتنا تعاني لعقود بل لقرون من تفتت العلاقة بين المجتمع والفرد، حيث يعاني الفرد من ضعف علاقاته الفعالة والمأثرة في المجتمع لاسباب عديدة أهمها إحتقار الآخر والتقليل من شأنه وتسلط الاجيال السابقة على اللاحقة وعدم اعطاء فرصة للشباب بالإدلاء باصواتهم، وعليه فإنه من الضروري ايجاد حلول جدية لإعادة صياغة هذه العلاقة بالشكل الذي ينفع الفرد والمجتمع لدفع عجلة التقدم والنهوض بالامة.
إننا اليوم نعيش في مرحلة جديدة من الحراك الشبابي الصاعد، والراغب في التغيير الجذري لدوله، ولكنه سيصاب بالاحباط إن لم يتمكن من تثقيف وإعادة تربية المجتمع بأسره ليتأقلم ويتعلم اهمية العلاقات البشرية بين جميع ابناء الوطن من اجل الوصول الى النهضة المنشودة، ان هذه التربية الاجتماعية ليس لها اي وجود يذكر لا في مدارسنا ولا مساجدنا ولا منتدياتنا، فالكل يطبطب على الجرح ويضع عليه الضماضات بدون محاوله جادة لتطهيره ومعالجته. والحراك الشبابي نفسه يعاني من فقدانه لاهم مكوناته وهي العقول القادرة على قيادته ومعالجة مشاكله الداخلية. وعليه فلابد من ايجاد التوازن بين تربية الافراد لقيادة الامة وبين المجتمع ليتقبلوا التغيير ويثقوا بقياداتهم الجديدة.
إن المجتمعات الناعسة والكسولة لا تستحق الوجود ولا قيمة لها اذ انها فقدت رغبتها القتالية في البقاء وحل المشاكل التي تعانيها، كيف لامة تتجاهل عقول افرادها ان تثمر وتبني وتسابق غيرها؟ الانسان هو ذخر أي امة فبنائه وتربيته والاهتمام به يعني ان هذه الامة بخير إذ أن عقولها الفردية القادرة على الاستمرارية بخير.
نحن بحاجة ماسة لاستغلال مواردنا الكثيرة لمعالجة هذا الموضوع ومناقشته في جميع منابرنا بشكلٍ جاد بدلاً من المواضيع التقليدية المكررة، وإلا فإن المشكلة ستتضخم وسنفقد الامل في امكانية اعادة رسم وجودنا على هذا الكوكب كخير أمة أخرجت للناس، وذلك عبر ايجاد عوامل مشتركة توحد افراد المجتمع وتدفعهم بالايمان بأن أصوتهم مسموعة وجهدهم مشكور ولا فإننا سنكون أتعس حالاً من المجتمعات البدائية التي لا اثر لها ولا عين.