تعيش التجربة التونسية على وقع محاولات قوى الثورة المضادة لإجهاضها وإعادتها إلى المربع الأول لما قبل 14 يناير، وذلك عن طريق إرباك المشهد السياسي وتعطيل عملية الانتقال الناجحة نسبيًا رغم الهنات، كما اتخذت أشكالًا أخرى بدءًا من الاستثمار في الاغتيالات (الشهيدان بلعيد والبراهمي) إلى بث الفوضى والعنف في البلاد، إضافة إلى تعطيل الاستثمارات وإعطاب عجلة الإنتاج من خلال الإضرابات العشوائية المتكررة، وصولًا إلى العمل على تشويه صورة الثورة في الخارج.
ماكينة الثورة المضادة لم تهدأ يومًا منذ الإطاحة بنظام بن علي، ومع تحرير حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليًا قاعدة الوطية الإستراتيجية وتغيُر موازين القوى في ليبيا، تحولت الجارة تونس إلى ساحة للجدل السياسي ومسرحًا لقوى خارجية تعمل على إرباك الوضع، خاصة بعد اتصال رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي برئيس حكومة الوفاق فايز السراج، وتقدمت كتل “تحيا تونس” (14 مقعدًا) و”قلب تونس” (29 مقعدًا) و”الإصلاح” (16 مقعدًا) و”المستقبل” (8 مقاعد)، في البرلمان التونسي، بلائحة تطالب بعقد جلسة حوار مع رئيس البرلمان لتوضيح مواقفه السياسية الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي، فيما كان سقف مطالب بعض الأطراف المحلية المدعومة من الإمارات عاليًا ووصل حد الدعوة لإسقاط البرلمان.
المنادون بتنحي رئيس البرلمان وإسقاط المؤسسة، ينقسمون إلى شقين: الأول بقيادة المحامي والناشط السياسي عماد بن حليمة الذي دعا إلى تنظيم اعتصام 1 من يونيو/حزيران 2020، من أجل عزل راشد الغنوشي من منصبه ومساءلته عن دوره الإقليمي، وهو ما لم ينجح فيه، إذ بعد ساعتين من بداية الاعتصام أعلن بن حليمة تعليقه بسبب قلة المشاركين.
أما الفريق الثاني فتقوده عضو سابق في البرلمان التونسي عن حزب نداء تونس، فاطمة المسدي ويدعو إلى الاعتصام يوم 14 من يونيو/حزيران 2020 أمام البرلمان، من أجل المطالبة بحله نهائيًا والاستفتاء على النظام السياسي في البلاد، والذهاب نحو انتخابات جديدة ويساندها في هذه المطالب بعض الشخصيات السياسية التي خسرت مكانها في المشهد بانتخابات 2019.
وتناقل رواد مواقع التواصل في تونس، خلال الفترة الأخيرة، وثيقة منسوبة لجهة تُسمي نفسها “هيئة الإنقاذ الوطني”، دعت فيها إلى “حل البرلمان والأحزاب والمطالبة بمحاسبتها وتعليق العمل بالدستور ومراجعة قوانين ما بعد الثورة وإعادة صياغتها والمصادقة عليها باستفتاء شعبي”.
سقوط قياسي
بحسب الصور والفيديوهات التي نقلتها وسائل الإعلام المحلية، لم يتجاوز عدد الذين خرجوا دعمًا لحراك ما سمى باعتصام الرحيل 2 أمام البرلمان التونسي، الـ30 نفرًا على أقصى تقدير رغم التجييش الإعلامي والتحشيد عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأكثر من أسبوعين، وهو الأمر الذي دفع السلطات التونسية سابقًا إلى نشر قوات أمنية لتطويق مقر البرلمان تحسبًا لأي طارئ خلال الاعتصام.
قبالة البرلمان التونسي، وقف المحامي عماد بن حليمة الذي يقود الدعوات إلى تغيير الدستور وتعديل النظام السياسي للبلاد وإزاحة زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي عن رئاسة البرلمان، بين أنصاره معلنًا انطلاق “اعتصام الرحيل 2” وتعليقه في ذات اليوم التزامًا بإجراءات الحجر الصحي الموجه، على حد تعبيره، والحال أن تغيب الجماهير والمناصرين عن الحدث أثار صدمة في نفس أبرز الوجوه التي تقود الحراك، ما أجبره، وفق المراقبين، على تعليق الحراك متعللًا بجائحة كورونا.
وفي السياق ذاته، يؤكد المراقبون أن الحراك الذي دعت إليه شخصيات غير وازنة في المشهد السياسي ولا تحظى بأي تأثير في المجتمع التونسي، دام على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي أكثر من الأرض، فيما يرى آخرون أنه بالون اختبار جديد تجريه قوى الثورة المضادة لجس نبض الشارع تمهيدًا لخطوة يتم التحضير لها لاحقًا، خاصة أنها ساندت في وقت سابق تحركات مماثلة على غرار حملة “السترات الحمراء” التي أُطلقت في ديسمبر/كانون الأول 2018.
نسخة مشوهة
“الرحيل 2” هو نسخة مشوهة من اعتصام باردو (2013) الذي جاء في سياقٍ خاصٍ به، ففي تلك الفترة عرفت تونس استقطابًا حادًا بين الحكومة (الترويكا) تقودها حركة النهضة وأطراف في المعارضة بزعامة الباجي قائد السبسي الذي كان ينظر إليه على أنه شخصية جامعة لأحزاب خارج السلطة، إضافة إلى أنه كان نتاج تصاعد العمليات الإرهابية التي اغتيل على إثرها المعارض القومي الناصري محمد البراهمي أمام منزله في 25 من يوليو/تموز، ومن قبله المعارض شكري بلعيد، وانتهى الحراك الذي دام أسبوعين تقريبًا بتوافق الشيخين (الغنوشي والسبسي) وتبني مقترحات الحوار الوطني الذي قاده اتحاد الشغل بين الفرقاء السياسيين، ووضع حكومة غير متحزبة (تكنوقراط) أشرفت على انتخابات 2014.
المقارنة بين الاعتصامين لا تستقيم لعدة اعتبارات أهمها أن الحراك الأخير (الرحيل 2) لا تقوده شخصيات وطنية معروفة ولا يحظى بدعم من الأحزاب السياسية، فحزب الحر الدستوري الذي تتزعمه عبير موسي أعلن تبرؤه من الاعتصام، وكذلك فعل النائب بالبرلمان عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد منجي الرحوي، وهي خطوة اعتبرها ناشطون على منصات التواصل تأتي في إطار درايتهم المسبقة بالفشل للذريع الذي سيمنى به الحراك.
عبير موسي ومنجي الرحوي يتبرآن من اعتصام الرحيل 2
الخوف يجري الجوف ياجماعة?— massaoudi Abdelghali (@Massaoudi16) May 29, 2020
من جانبه، سارع الاتحاد العام التونسي للشغل إلى نفي علاقته بالحراك، معلنًا إصدار عقوبات تأديبية في حق امرأة متقاعدة من خطوط الجوية، وذلك بعد رفعها شعار منظمة الشغيلة دون علم هياكله خلال اعتصام “الرحيل 2″، مشيرًا إلى أنه تم إقحام الاتحاد عنوة في وقفة عماد بن حليمة أمام البرلمان.
إضافة إلى ذلك، فإن دعوات إلغاء دستور 2014 وتغيير النظام السياسي الحاليّ وحل البرلمان وإسقاط رئيسه، أثارت شبهات بشأن مقاصدها الخفية خاصة أن تونس تعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية، وهو ما عبر عنه الناشط السياسي برهان بسيس في تصريح سابق، بالقول: “تحشيد الناس للمطالبة بتغيير النظام السياسي ليس مناسبًا”، مضيفًا “في النهاية التاريخ لا يعيد نفسه وإن عاد فستكون مهزلة”.
سخرية واسعة
وقوف المحامي عماد بن حليمة وحيدًا أمام البرلمان التونسي بسبب ضعف عدد الحضور وسرعة تعليق الوقفة الاحتجاجية بتعلة جائحة كورونا أثار سخرية واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث كتب عبد الرحمن بن شعبان مغردًا على تويتر: “مليونية اعتصام الرحيل 2 مباشرة من باردو.. عدد الحاضرين 7 باعتبار السائق”، في إشارة إلى سيارة الأجرة التي يستعملها التونسيون في رحلاتهم بين المحافظات.
مليونية اعتصام الرحيل 2 مباشرة من باردو … عدد الحاضرين 7 باعتبار السائق ??? pic.twitter.com/91dtZmwVKg
— Abderrahmen Ben Chaabene (@Abderra59478768) June 1, 2020
أما مهران مي فنشر صورة لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد على صفحته بموقع فيسبوك موشحًا عليها “سأخبر الله بكل شيء”، وكتب: “بعد ما أنفق أمواله على اعتصام الرحيل وتم التحيل عليه”.
بدوره كتب محمد الأنور العزعوزي على فيسبوك: “عماد بن حليمة كان قد طالب في وقت سابق على صفحته الشخصية بتنظيم حفلات خيرية دون حضور جمهور تخصَص مداخيلها للعائلات المتضررة من الكورونا، وها هو اليوم يقود أقصر اعتصام في التاريخ، وكذلك دون حضور جمهور، لا بد أن يكتب اسم هذا الرجل في صفحة العباقرة التونسيين ويُشيد له تمثال يخلد ذكراه في الأجيال اللاحقة، فمثله مكسب نادر لوطننا العزيز”.
تندر التونسيين باعتصام الرحيل لم يقف عند القائمين عليه أو غياب الجمهور بل طال اللافتات التي حملها بعض المحتجين وحجم الأخطاء اللغوية بها، حيث علق مغرد تحت اسم صقر قريش على تويتر على إحدى اللافتات بالقول: “الشعب يوريد، مسخرة، هذا الذي لا يعرف حتى كتابة جملة مفيدة وبخط مقروء يطالب بحل البرلمان. قمة السريالية”.
الشعب يوريد. مسخرة, هذا الذي لا يعرف حتى كتابة جملة مفيدة و بخط مقروء ,يطالب بحل البرلمان. قمة السريالية….. https://t.co/UNdd9AgjNs
— Saqru Quraish (@QuraishSaqru) June 1, 2020
فشل متجدد
ضربة أخرى في خصر قوى الثورة المضادة وعلى رأسها الإمارات التي تقود حربًا دون هوادة على أرض تونس من أجل شيطنة الثورات العربية والعمل على تسهيل عودة الأنظمة العسكرية والحكم الاستبدادي، واستنساخ تجربة السيسي في مصر أو اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، مجندةً أذرعًا إعلامية وأحزابًا سياسية محلية لترذيل التجربة الديمقراطية ورموزها.
وتلعب بعض وسائل الإعلام التونسية أدوارًا سلبية من خلال انخراطها في محاولات قوى الثورة المضادة لتشويه الثورة والحط من قيمة الإنجازات المحققة في البلاد بفضل الانتقال الديمقراطي، أو ببث الفوضى وضرب السلم الاجتماعي من أجل تسهيل مشاريع استعادة البنى القديمة للسلطة السياسية.
من جانبها، دخلت وسائل الإعلام العربية الممولة إماراتيًا وسعوديًا بقوة على الخط وانخرطت في حملة التجييش ضد مؤسسات الدولة في تونس من خلال نشر تقارير منها المزيف ومنها المبالغ فيه، وأعطت الحراك زخمًا وحجمًا أكبر مما يستحق، وفيما يلي بعض عناوين الأخبار والتقارير:
- قناة “العربية الحدث” السعودية بثت خبرًا كاذبًا عن إضراب عام في تونس، للمطالبة بإقالة رئيس البرلمان ورئيس حزب “حركة النهضة” راشد الغنوشي.
- العين الإماراتية: “اعتصام الرحيل 2”.. شبح غضب 2013 يرعب “إخوان” تونس”.
- قناة “الغد” الممولة إماراتيًا بثت تقريرًا مفبركًا ادعت فيه وجود مظاهرات في 7 محافظات تونسية واستخدمت صورًا قديمة لا علاقة لها بالوضع.
التحشيد الإعلامي العربي لدفع الشارع التونسي إلى التحرك لترجيح كفة جهات رفضها الصندوق، أرجعه الباحث الجامعي في الفلسفة السياسية، رياض الشعيبي، في تصريحات سابقة، إلى “جبهة سياسية وأيديولوجية ترى أنها متضررة من الديمقراطية، ولا تستطيع الحفاظ على مصالحها في ظل العودة إلى الشعب والإرادة الشعبية”، مضيفًا “لذلك تجتمع هذه القوى ذات التأثير الإقليمي لتلتقي مع لوبيات فساد داخلي إعلامي وسياسي ومالي، محاولة الرجوع بالوضع السياسي في تونس إلى ما قبل ثورة 14 يناير ولو بعناوين جديدة ومسميات مختلفة”.
بدوره، أكد رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة أن دعاوى حل البرلمان خارج النص الدستوري والقانون وفيها الكثير من الالتباس، وتُحيل في سياقها الحاليّ إلى مخططات لضرب الاستقرار في البلاد وإرباك مؤسسات الدولة وتعطيل مصالح المواطنين، مضيفًا: “هي مخططات لم تعد خافية على أحد، وتتقاطع مع أجندات محلية وإقليمية لتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه بلادنا، وإسقاط تجربة فريدة باتت تقض مضاجع الانقلابيين والفوضويين، وما نشهده من حملات تحريض وصناعة لأوهام عن احتجاجات في تونس في وسائل إعلام أجنبية مشبوهة، هو دليل إضافي على ما تجابهه التجربة التونسية من مشاريع تخريب”.
بالمحصلة، يمكن القول إن بناء دولة ديمقراطية تقوم على المؤسسات الدستورية هي مسؤولية مشتركة بين كل الأطياف السياسية ومكونات المجتمع دون استثناء، والمسار الثوري بطبيعته صراع فكري يسمح بتجدد رؤى النخب وقراءاتها وبإعادة إنتاج حركة فكرية متنورة، لذلك فإن التونسيين مدعوون إلى مواصلة المسيرة بالطرق السلمية التي تبنتها ثورة 14 يناير، المتمثلة أساسًا في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإرجاع الأمر لأصحابه (الشعب)، فمكاسب الانتقال الديمقراطي في تونس كثيرة رغم العثرات والانتكاسات.