أعلنت الحكومة الأمريكية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بصورة رسمية، اليوم الإثنين 14 ديسمبر 2020، ليسدل الستار على 27 عامًا من العقوبات المختلفة التي فرضت على البلد العربي وما تبعها من أشكال متنوعة من المقاطعة الاقتصادية الدولية.
السفارة الأمريكية في الخرطوم في بيانها الذي نشرته وكالة السودان للأنباء (سونا) أشارت أن هذا القرار “سيضع حدًا للأضرار الفادحة التي لحقت بالاقتصاد السوداني والعزلة الدولية الخانقة والقيود التي فرضت على مواطني السودان جراء تصنيفه كدولة راعية للإرهاب”، لافتة إلى أن العمل بهذا القرار سيدخل حيز التنفيذ بدءًا من اليوم.
البيان أشار إلى أن هذه الخطوة جاءت بعد أن “انقضت فترة إخطار الكونجرس البالغة 45 يومًا ووقع وزير الخارجية إشعارًا يفيد بأن إلغاء تصنيف السودان دولة راعية للإرهاب، ليتم نشره في السجل الفيدرالي”، لتدخل البلاد مرحلة جديدة من الانفتاح الخارجي الذي حرمت منه لما يزيد عن ربع قرن.
الإعلان عن هذه الخطوة التي تعهدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتنفيذها كأحد مقتضيات الاتفاق الضمني الخاص بتعزيز مسار التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب، يضع العديد من التساؤلات والمحددات المتعلقة بسيناريوهات القادم فيما يتعلق بالتداعيات المتوقعة بعد رفع العقوبات عن السودان.. فهل يرد السودانيون الجميل لترامب بإبرام اتفاق التطبيع قبل رحيل ترامب في العشرين من يناير المقبل؟
ترامب يسابق الزمن
يسابق الرئيس الأمريكي الزمن لأجل إبرام الاتفاق السوداني الإسرائيلي قبل مغادرته للبيت الأبيض، ساعيًا لتحقيق انتصار دبلوماسي يحسب له في هذا الملف الذي نجح في تحقيق ما لم يحققه أسلافه، ففي عام واحد فقط نجح في ضم 4 دول لحظيرة التطبيع.
وفي مقابل ذلك يحاول تذليل العقبات أمام انضمام السودان لهذا الاتفاق، مستندّا إلى حزمة الإغراءات المالية والسياسية التي يرى أنها كفيلة بأن يتخلى السودان عن مرتكزاته الوطنية السابقة، وكان قرار رفع اسم البلاد من قوائم الدول الراعية للإرهاب أول خطوة في هذا الاتجاه.
أمام خطوة رفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب باتت السلطة الحالية في موقف حرج، فعليها أن تبادر هي الأخرى برد الجميل لإدارة ترامب وتقديم هدية وداعه
وكانت واشنطن اشترطت على الخرطوم من أجل رفع اسمه من قوائم الأرهاب أن تقوم بدفع تعويضات بمئات ملايين الدولارات لضحايا هجمات المدمرة كول (2000) والسفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا (1998)، وذلك رغم نفي السودان القاطع بالضلوع في تلك الهجمات.
محامو المدعين في أحداث 11 سبتمبر طلبوا 4 مليارات دولار، كمقابل للتعويضات، وهو المبلغ الذي رفضته الإدارة والجمهوريون في مجلس الشيوخ، وتدخل ترامب بنفسه لتقليله قدر الإمكان في محاولة لإنهاء هذا الملف الذي بات يمثل عقبة أمام حصول السودان على الحصانة القضائية ضد أي ملاحقات قد يكون لها تداعيات اقتصادية على المستوى البعيد.
هل يوقع اتفاق التطبيع قريبًا؟
محطة “أيه بي سي نيوز” الأميركية، أفادت قبل يومين بأن إدارة ترامب عرضت دفع 700 مليون دولار على ضحايا الهجمات نظير التخلي عن دعاواهم ضد السودان، ورغم عدم الاتفاق بصورة نهائية على العرض الجديد إلا أن الحكومة الأمريكية قررت رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب، في خطوة اعتبرها البعض “عربونًا” مقدمًا من واشنطن لحث الخرطوم على إبرام اتفاق التطبيع مع دولة الاحتلال.
لاشك أن هذه الخطوة ستفتح الطريق أمام السودان لاسترداد أمواله المجمدة في البنوك الخارجية، وإعادة التشغيل والتعامل بكافة الأشكال لاسيما المالية والاقتصادية مع العالم والمؤسسات المصرفية والسياسية والاقتصادية، وهو ما يمكن أن يكون له آثاره الإيجابية على الواقع المعيشي السوداني.
لكن في الجهة الأخرى تعلم السلطات السودانية أن هذا القرار مشروط – ولو بصورة ضمنية- بخطوة للأمام تخطوها البلاد نحو إبرام الاتفاق مع “إسرائيل”، وهي المسألة التي تواجه انقسامات حادة داخل الشارع السوداني، بين المكونين، العسكري والمدني.
يتحدث القانون كذلك عن مراقبة أموال المؤسسات الأمنية، الجيش والشرطة، وأصولها وميزانيتها، هذا بجانب تشديد الرقابة على قوى الأمن والاستخبارات والشركات التابعة لها والعاملة في كافة القطاعات الاقتصادية والمدنية في الدولة
الأيام الأخيرة شهدت سجالًا حادًا بين مختلف التيارات السياسية في السودان حول هذا الملف، تصاعدت الأمور مع تزايد رقعة الرافضين للتطبيع، فيما شاب الائتلاف الحاكم انقسامات كبيرة في ظل انضمام العديد من الأحزاب المنضوية تحت لواءه إلى الجبهة المكونة لرفض التطبيع والتي تضم ما يزيد عن 25 مكون سياسي ومدني.
وأمام خطوة رفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب باتت السلطة الحالية في موقف حرج، فعليها أن تبادر هي الأخرى برد الجميل لإدارة ترامب وتقديم هدية وداعه بإبرام الاتفاق قبل الرحيل، إلا أنها في الجهة الأخرى تخشى من فقدان الجبهة الداخلية لتماسكها في ظل اتساع الفجوة بين التيار الرافض والمعارض لهذا القرار.
البراغماتية السودانية وإن نجحت مؤقتًا في تحقيق نجاحات على المستوى الضيق إلا أن هذا النجاح لا يرتكز على أرضية صلبة في ظل العديد من الملفات الأخرى التي من الممكن أن يتم استدعاءها بين الحين والأخر، لإعادة فرض العقوبات علي البلاد مرة أخرى، حال عدم الوفاء بالالتزامات السابقة.
المؤشرات تذهب إلى أنه من الصعب إبرام السودان لاتفاق التطبيع الرسمي مع “إسرائيل” قبيل رحيل ترامب، وأنه يميل نسبيًا إلى انتظار ولاية جو بايدن لخطب وده بهذه الخطوة التي سيكون لها صداها لدى الإدارة الديمقراطية الجديدة، فيما يذهب آخرون إلى أن ترامب سيعزز من ضغوطه خلال الفترة المقبلة لأجل توقيع هذا الاتفاق الذي سيكون الانتصار الأخير للرئيس المنتهية ولايته، يمكن أن يستند إليه حال رغبته في الترشح مرة أخرى بعد أربع سنوات حسبما أشار هو قبل ذلك.
رقابة من نوع آخر
وفي الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة الأمريكية رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب، أقر الكونغرس الأميركي مشروع قانون يدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، ويشدد الرقابة على الاستخبارات والجيش، ويتضمن تقييمًا لبعض الإصلاحات في الأجهزة الأمنية، من بينها تفكيك الميليشيات وتقليص نفوذ المؤسسة العسكرية مقارنة بالمؤسسات المدنية.
القانون الذي جاء تحت مسمى «قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية للعام 2020»، ويحظى بدعم واسع من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وأقره الكونغرس الجمعة الماضية، لاشك وأنه سيكون له أثر كبير على توازنات وتفاعلات الداخل السوداني لأنه يشمل حل الميليشيات، والمراقبة والمحاسبة على الجيش وأجهزة الأمن فيما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية وحقوق الإنسان.
ومن بين بنود القانون الجديد حظر الأنشطة التعدينية للقوات المسلحة والإدارات التابعة لها، وهو ما يتعارض مع مصالح قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي” الذي يسيطر على النصيب الأكبر من هذا النشاط، والمتورط في قضايا تهريبه للإمارات عبر إحدى الشركات المملوكة لأحد أفراد عائلته.
ويتحدث القانون كذلك عن مراقبة أموال المؤسسات الأمنية، الجيش والشرطة، وأصولها وميزانيتها، هذا بجانب تشديد الرقابة على قوى الأمن والاستخبارات والشركات التابعة لها والعاملة في كافة القطاعات الاقتصادية والمدنية في الدولة، كما يتضمن تقييمًا بين الحين والأخر لمدى التزام السلطات بتلك البنود ومواثيق حقوق الإنسان والانتقال المدني للسلطات وتقليص نفوذ المؤسسة العسكرية.
وفي حال الإخلال بذلك ينص المشروع على العديد من العقوبات المتوقع فرضها على المخالفين، أيا كانت درجاتهم الوظيفية والمسؤولية في البلاد، وتتراوح هذه العقوبات بين تجميد الأصول وإلغاء تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، وغيرها من العقوبات الأخرى.
وفي المحصلة من الواضح أن واشنطن تريد وضع الخرطوم بين فكي كماشة، فقرار الرفع من قوائم الإرهاب لا يعدو كونه إغراء لإسالة لعاب السلطات الحاكمة هناك لإبرام اتفاق التطبيع وتنفيذ الأجندة الأمريكية في المنطقة لاسيما في ظل تكالب القوى الدولية وعلى رأسها الصين وروسيا في تلك البقعة الحيوية، أما في حالة انحراف السودانيين عن الخط المرسوم فليس أمام الأمريكان سوى العودة إلى فرض العقوبات مرة أخرى من خلال القانون الجديد.