فتحت احتجاجات كازاخستان الباب واسعًا أمام تدخل روسيا عسكريًا في البلاد، فلم تمض سوى أيام قليلة من بدء الثورة الشعبية العارمة على حكم الرئيس الكازاخي قاسم جومرت توكاييف والنظام القائم في البلاد حتى بدأت قوافل العسكر الروسية بالدخول إلى البلاد تحت مظلة “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، بعد أن أعلن توكاييف أنه “طلب المساعدة من قادة الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بسبب الوضع الحاليّ في البلاد ولإعادة النظام في بلاده في إطار الاتفاقية بين الدول الأعضاء”.
وكعادة الديكتاتوريات، اتهمت السلطة الحاكمة المحتجين بأنهم “إرهابيين” بقول الرئيس الكازاخي: “تباحثت مع قادة الدول الأعضاء في المنظمة، وطلبت منهم مساعدة كازاخستان للتغلب على هذا التهديد الإرهابي”، مضيفًا “في الواقع هذا ليس تهديدًا، إنه إخلال بسلامة البلاد. يتوقع مواطنونا خطوات سريعة مني كرئيس لضمان سلامتهم”.
في الجانب الآخر، أثار التدخل الروسي السريع حفيظة تركيا التي لديها جذور قوية في كازاخستان، إذ يرتبط البلدان ارتباطًا قوميًا وثقافيًا، حيث تشكل قومية الكازاخ التركية النسبة الكبرى من السكان، بالإضافة إلى قوميات وعرقيات متعددة، كما تعد اللغة التركية هي اللغة التي يتحدث بها ما يقارب 65% من إجمالي عدد السكان البالغ 19 مليون نسمة.
في المقابل، فإن الارتباط الكازاخي الروسي يبدو قويًا، إذ تعتمد دوائر الدولة والمعاملات التجارية على اللغة الروسية بشكل رسمي، إضافة إلى أن فئة واسعة من الشعب تتقن اللغة وتستخدمها في معاملاتها اليومية، والأمر يتعدى موضوع اللغة، فكازاخستان كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وتعتبر من أكثر البلاد تأثرًا بالحقبة السوفييتية خاصة فيما يتعلق بمجال الدين.
يدفعنا التقارب الكازاخي التاريخي والثقافي مع كلا البلدين (روسيا وتركيا) إلى التساؤل ما إذا ستصبح ألماتي مضمارًا جديدًا لمواجهة سياسية باردة بين تركيا وروسيا، ولعل ما حصل خلال السنوات الماضية من تنافس بين البلدين في جبهات مختلفة سيجعل من كازاخستان نقطةً جديدةً وإن لم يكن للرصاص دور فيها كما حصل في سوريا وليبيا وكراباخ وغيرها.
كما أسلفنا فإن كازاخستان عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وعضو مهم في منظمة الدول التركية، ونتحدث هنا عن المنظمتين:
منظمة معاهدة الأمن الجماعي
منظمة معاهدة الأمن الجماعي، هي تحالف عسكري تقوده روسيا ويتألف من 6 دول كانت ضمن الاتحاد السوفييتي سابقًا، وتأسست هذه المنظمة بعد تفكك الاتحاد، وتم إنشاؤها رسميًا عام 2002 وذلك بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، وتضم المنظمة روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، ويقع مقر المنظمة في العاصمة الروسية موسكو، وتتناوب الدول الأعضاء على رئاسة المجموعة.
عام 2007 وقع رؤساء الدول الأعضاء بمنظمة الأمن الجماعي في أثناء القمة على بروتوكول يتضمن آلية تقديم المساعدات العسكرية التقنية للدول الأعضاء في المنظمة، في حال ظهور تهديد بالعدوان عليها أو في حالة العدوان الفعلي عليها.
ويرجع أساس المنظمة إلى اتفاق أمني موقع بين هذه الدول عقب تفكك الاتحاد في تسعينيات القرن الماضي، وفي عام 2009 أسس التكتل قوة رد سريع قوامها 20 ألف عنصر، وتعترف الأمم المتحدة بوحدة حفظ السلام التابعة له المكونة من 3600 عنصر، ويشير بعض الخبراء إلى أن روسيا تحاول من خلال هذه المنظمة إنشاء “ناتو مصغر” ردًا على حلف شمال الأطلسي الذي تقوده أمريكا.
لكن المقارنة هنا تبدو ضعيفة جدًا، فموسكو تفتقر للموارد اللازمة مقارنة بالموجود لدى دول حلف الناتو، كما أن دول المنظمة الروسية منشغلة بشكل كبير بصراعات تجعل منها مفككة، كأرمينيا التي تواجه أذربيجان وخسرت أمامها خسارة مهينة وتنازلت عن إقليم كاراباخ، وبيلاروسيا التي تهتم بأمن حدودها مع بولندا ولاتفيا.
تسعى موسكو من خلال هذه المنظمة إلى استعادة أمجاد حلف وارسو ومواجهة تطلعات حلف شمال الأطلسي “ناتو”، كما تسعى المنظمة إلى ضمان الأمن الجماعي والدفاع عن سيادة أراضي الدول الأعضاء واستقلالها ووحدتها، وينص ميثاق المنظمة على امتناع الدول الأعضاء عن استعمال القوة أو التهديد فيما بينها، وعن الانضمام إلى أحلاف عسكرية أخرى، كما ينص على أن الاعتداء على أي عضو في المجموعة يعتبر اعتداءً على بقية الأعضاء.
منظمة الدول التركية
أما منظمة الدول التركية، التي تضم 7 دول هي: تركيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان وجمهورية شمال قبرص التركية (غير المعترف بها)، وتمتلك لغةً وتاريخًا وحضارةً مشتركةً، وتعتمد هذه الدول اللغة التركية لغة رسمية، وتنتشر القومية التركية في العالم حيث ينحدر منها أكثر من 300 مليون شخص في بلدان متعددة.
عام 1992 دعا الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، رؤساء أذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان حينئذ، إلى أنقرة، لعقد قمة قرروا من خلالها تنمية التعاون المشترك فيما بينهم عبر عقد قمم دورية بينهم، واستمر عقد اللقاءات بين تركيا وهذه الدول سنويًا، إلى أن أعلنوا رسميًا تأسيس ما يسمى المجلس التركي في مدينة ناخشيفان الأذربيجانية عام 2009.
في العام المنصرم، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماع للمجلس أن المجلس التركي أصبح “منظمة الدول التركية”، وقال: ”قررنا أن مجلس عائلتنا الذي أصبح منظمة باتت تحظى باحترام على الصعيد الدولي، سيواصل تعزيز التعاون بين دول هذا التكتل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا”، وتتكون منظمة الدول التركية من مجالس زعماء الدول الأعضاء ووزراء الخارجية.
تضم المنظمة أيضًا قادة الرأي في البلدان الأعضاء تحت مسمى “اللحى البيضاء”، ولجنة كبار الموظفين والأمانة العامة ومقرها في إسطنبول، كما تضم المنظمة جمعية برلمانات البلدان الناطقة باللغة التركية ومجلس العمل التركي ومنظمة الأكاديمية والثقافة التركية الدولية واتحاد الغرف والبورصات المشتركة.
الهدف الرئيسي من منظمة الدول التركية هو “تأسيس وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في قضايا السياسة الخارجية والاقتصاد والمواصلات والجمارك والسياحة والتعليم والإعلام والرياضة والشباب، كما يستهدف توسيع مجالات التعاون الدولي في العالم الإسلامي، وبين بلدان الشرق الأوسط والمنطقة الأوراسية، وترسيخ السلام والاستقرار فيها”.
تُرجمت أقوال وأهداف المنظمة على الأرض وشهدت نجاحًا عسكريًا باهرًا، فتركيا تدخلت إلى جانب أذربيجان في حربها ضد أرمينيا المدعومة من روسيا، واستطاعت أنقرة مع أذربيجان تحقيق انتصار ساحق باسترداد إقليم كاراباخ بعد معارك طاحنة هزمت فيها القوات الأرمينية.
الموقف التركي
بعد تسارع وتيرة الاحتجاجات، بحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع زعماء الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية، التطورات الجارية في كازاخستان، ووفقًا لبيان الرئاسة التركية، أجرى أردوغان محادثات هاتفية مع كل من نظرائه في كازاخستان قاسم جومرت توكاييف، وأذربيجان إلهام علييف، وقرغيزيا صدر جباروف، وأوزبكستان شوكت ميرضيائيف.
وأعلن أردوغان لنظيره الكازاخي توكاييف، عن “متابعة أنقرة للتطورات الجارية في كازاخستان، متمنيًا الرحمة للضحايا والشفاء العاجل للجرحى”، وأعرب عن تضامن بلاده مع كازاخستان، مؤكدًا دعم منظمة الدول التركية في بيانها لكازاخستان”.
تعليقًا على هذا الموقف، قال الصحفي التركي محمد أونلمش في إطار تعليقه على الموقف التركي مما يحصل في كازاخستان: “تركيا ترى في كازاخستان وفي الدول التركية الأخرى عمقًا إستراتيجيًا لها، وقد استطاعت بعد تحرير كاراباغ من فتح ممر مباشر مع آسيا الوسطى، وهو أمر تنزعج منه روسيا التي ترى في تلك المنطقة ساحة خلفية لها”، وأشار إلى أن تركيا “تحاول في الفترة الأخيرة سحب البساط من تحت روسيا رويدًا رويدًا، من خلال الاتفاقيات التجارية والاقتصادية، وبيع الأسلحة ومنتجات الصناعات الدفاعية المختلفة إلى تلك الدول! وفي نوفمبر الماضي جمعت الدول التركية تحت مظلة منظمة الدول التركية، وجعلت مقرها في إسطنبول”.
يضيف الصحفي التركي “هذه الخطوة أزعجت روسيا كثيرًا، وهي التي ترى أن جميع هذه الدول يجب أن تكون تحت رعايتها، وعليها أن لا تخرج من مظلة معاهدة الأمن الجماعي التي تجمع أغلب الدول التي كانت في الاتحاد السوفيتي سابقًا”، مشيرًا إلى أنه “مع ظهور الاحتجاجات في كازاخستان وخروجها عن السيطرة، رأت روسيا أن الفرصة مواتية لإثبات أن التحالف الحقيقي في المنطقة هو تحالف الأمن الجماعي، وليس الدول التركية، واستطاعت بنفوذها أن تحشد دول الأمن الجماعي وتتدخل عسكريًا وبقوة في كازاخستان، بشكل لا يختلف كثيرًا عن تدخلها السابق في أفغانستان خلال الحرب الباردة.
أما عن تركيا فيقول أونلمش: “أنقرة لا تريد من هذه الدول أن تبقى في فلك روسيا، ولا تريد أن تخسر العلاقات معها، وتعرف طبيعة هذه الدول الشبيهة بالأنظمة العربية، لذا تقترب بحذر، تدعو إلى الإصلاح والحوار، وتقول إنها تدعم الشعب والحكومة، ولا تشجع على القمع في نفس الوقت، بينما روسيا تتصرف بسرعة وقوة، مستغلة نفوذها بين السياسيين والعسكريين الفاسدين في هذه الدول، وهي تحاول توجيه ضربة قاضية لمنظمة الدول التركية قبل أن تكبر هذه المنظمة، كما ترغب بحسم الوضع في كازاخستان قبل أن تتحول إلى أوكرانيا أخرى”.
الحسم الروسي
لطالما كانت روسيا حاسمة عسكريًا في الكثير من المواقف ولعل آخرها التدخل في كازاخستان على عكس الموقف التركي الذي يحاول التريث والعمل على الحلول السياسية، إلى ذلك قال الكرملين: “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أجرى اتصالات بحلفاء في آسيا الوسطى لبحث الاضطرابات الدموية التي تهدد الحكومة في كازاخستان”.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “بوتين تباحث عدة مرات عبر الهاتف مع الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف”، كما تباحث مع قادة آخرين بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بعد أن تدخلت هذه القوات في كازاخستان، وكان توكاييف قد أعرب عن “امتنانه” لقادة دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي على الدعم الذي تقدمه لكازاخستان، قائلًا: “أتوجه بعبارات امتنان خاصة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد استجاب بسرعة لطلبي للمساعدة”.
ويعتبر المراقبون أن أي عدم استقرار سياسي داخلي في دولة مجاورة مثل كازاخستان التي ترتبط مع روسيا بأطول حدود بين جميع جيرانها، يمكن أن يؤثر بشكل خطير على مصالح موسكو، وكذلك فإن موسكو استفادت من درس التجربة الأوكرانية المؤلم، ولا تريد أيضًا تكرار سيناريو الاحتجاجات في بيلاروسيا التي حصلت منذ شهور وكادت أن تودي بحكم حليف موسكو ألكسندر لوكاشينكو، وكان الرئيس الروسي أكد مرارًا وتكرارًا على أن قواته مستعدة للدخول إلى بيلاروسيا ومساعدة لوكاشينكو بوجه الاحتجاجات التي يواجهها.
كما أن روسيا ستقاتل من أجل عدم خروج كازاخستان من دائرة نفوذها، لأن انعتاقها من الهيمنة الروسية يعني تغييرًا محتملًا للسلطة وبالتالي ستتوجه نحو حلفاء جدد بعيدًا عن روسيا، مثل أمريكا وأوروبا، كما أن نظام الحكم الحالي في العاصمة نور سلطان، لن يتخلى عن روسيا إذ أنها الأقرب إليه لمساعدته في وجه أي ثورة أو اضطرابات قد تودي به. ولعل مثال أوكرانيا قريبًا. وفي السياق تقول صحيفة “نيويورك تايمز“: “فرض موسكو لنفوذها في كازاخستان هو هدف بعيد المدى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رغم أن الاضطرابات في كازاخستان كشفت مرة أخرى ضعف القادة الذين وثق بهم الكرملين في الحفاظ على النظام في دول الاتحاد السوفياتي السابق”.
في سياق الحديث عن المواجهة التركية الروسية في كازاخستان، يقول الدكتور باسل الحاج جاسم الباحث في سياسة تركيا الخارجية وشؤون آسيا الوسطى ومؤلف كتاب كازاخستان والأستانة السورية إنه “ليس دقيقًا القول أن روسيا سبقت تركيا إلى كازاخستان، فعلاقة كل من موسكو وأنقرة مع كازاخستان مختلفة، صحيح أنها لا تخلو من التنافس، إلا أنها لم تصل إلى مرحلة الصراع أو المواجهة في هذا البلد أو عموم آسيا الوسطى”.
ويرى الحاج في حديثه لـ “نون بوست” بأن “المنافسة قد تكون الوصف الأقرب إلى الواقع حول طبيعة العلاقة بين روسيا وتركيا في كازاخستان”، ويشير إلى أن “تركيا بالتأكيد لا تريد أن تأخذ مكان روسيا في كازاخستان، و استمرار علاقات مميزة بين موسكو ونورسلطان يخدم أنقرة أيضًا”، ويذكر الحاج “بالدور الهام والوساطة الناجحة التي لعبتها كازاخستان في حل الأزمة بين تركيا وروسيا على خلفية إسقاط تركيا الطائرة الروسية التي قالت إنها اخترقت اجوائها قبل أعوام، واكتشفت أنقرة الفائدة من وجود علاقات ودية وثيقة الشعوب التركية مع الاعراق الأخرى في اسيا الوسطى، بما في ذلك تلك الموجودة في كازاخستان، هذه العلاقات لم تكن كاملة في مرحلة السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي”.
لكن على الرغم من ذلك فإن “روسيا لا يناسبها أي طرف يحاول إضعاف نفوذها في المناطق التي كانت جزء من الاتحاد السوفياتي السابق وكازاخستان مع مجموعة من الدول الناطقة بالتركية هي جزء من تلك المناطق التي باتت اليوم تتطلع لعدم لعب أحد دور الأخ الأكبر عليها من جديد سواء موسكو اللاعب القديم الجديد او حتى أنقرة. ومن هناك قد تظهر مخاوف تركية في حال عادت الهيمنة الروسية من جديد على كازاخستان بعد أحداثها الأخيرة” والحديث هنا للدكتور الحاج. أما عن تركيا “هناك أيضا ثمة شيء قد يقلق تركيا وهو لماذا لم تطلب كازاخستان المساعدة من تركيا و طلبتها من روسيا، وهذا يجعلها تزيد من جهودها في المرحلة المقبلة في إطار منظمة الدول التركية التي تضمها وكازاخستان و دول أخرى ناطقة بالتركية”.
ختامًا: تبدو كازاخستان اليوم ساحةً لصراع بارد تركي روسي، تقدمت فيه موسكو على أنقرة بالتدخل العسكري الفوري، وإن كانت تركيا ترتبط بكازاخستان عبر الشعب واللغة والثقافة فإن موسكو التي لا تعترف إلا بلغة القوة ترتبط بنظام حاكم وهو كل ما تريده موسكو من أجل أن تظل كازاخستان تحت قبضتها دون أن تتحول لأوكرانيا جديدة، لكن تركيا لن تترك الأمر وتسلم بهذه البساطة لموسكو، وموسكو لن تسمح أن تكون كازاخستان هي أوكرانيا أخرى.