خلال الشهور الماضية ازدادت استفزازات صرب البوسنة لمسلميها، فقد تتابعت تصريحات مسؤولي الصرب الداعية لانفصال الجيش وتأسيس كيانات حكومية بمعزل عن الاتحاد الرئاسي البوسني، كما شهدت المنطقة تحركات عسكرية اعتبرها الكثيرون دقًا لطبول الحرب من الطرف الصربي، ولعل آخر الاستفزازات التي حدثت خلال الأيام الماضية كانت احتفال المئات من صرب البوسنة بما يسمى “عيد الدولة”.
فقد خرج الآلاف من صرب البوسنة إلى شوارع مدينة بانيا لوكا، احتفالًا بالذكرى الثلاثين لـ”عيد الدولة” المثير للجدل لجمهورية صربسكا، متحدّين بذلك الحظر الذي أصدرته المحكمة على الاحتفال بهذه الذكرى، حيث شارك المئات في عرض أجري خلال الاحتفال، نصف هذا العدد كان من عناصر الشرطة وقوات الحماية المدنية والخاصة في جمهورية صربسكا، حيث نظموا مسيرةً في ساحة “كراينا” وسط المدينة.
زاد من حدة الاستفزاز بهذا الاحتفال حضور كبار المسؤولين في جمهورية صربسكا وصربيا، بينهم عضو رئاسة البوسنة والهرسك ميلوراد دوديك ورئيسة جمهورية صربسكا زيليكا تشفيجانوفيتش ووزير الداخلية الصربي ألكسندر فولين وآخرون. هذا الاحتفال أدى لإدانات دولية أبرزها ما صدر عن الاتحاد الأوروبي الذي قال إن الاحتفالات “استفزازية ومثيرة للانقسام”.
العيد الذي يحتفل به الصرب وحظرته المحكمة الدستورية يصادف يوم 9 يناير/كانون الثاني وهو ذكرى اليوم ذاته من عام 1992 حين أعلن صرب البوسنة استقلالهم، الأمر الذي أشعل حربًا شعواء أدت لمقتل أكثر من 100.000 شخص وتشريد الملايين، وعلى الرغم من الحظر الذي بدأ عام 2015 لهذا العيد، فإن الاحتفالات تُقام في كل عام تحت أعين القيادات الصربية وحضورهم وهو ما يعزز الخوف بتجدد حرب كبيرة في المنطقة.
الاحتفال هذه السنة جاء بعد تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها ميلوراد دوديك، زعيم الصرب في البوسنة والهرسك، فقد هدد بالانفصال عن البوسنة إذا لم تتم العودة إلى “أصل اتفاقية دايتون”، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين من صرب البوسنة كانوا قد قاطعوا قانونًا يجرّم إنكار المجازر التي شهدتها البلاد، أصدره مكتب الممثل السامي في البلاد، وهدد دوديك باتخاذ “خطوات متطرفة” تتعلق بنظم الجيش والقضاء في البوسنة والهرسك.
قائد صربي متطرف
يُعتبر دوديك عضوًا في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك المكون من ثلاثة أشخاص، ولطالما أعطى وعودًا بتشكيل جيش صربي، كما أنه يريد طرد المؤسسات الفيدرالية خارج جمهورية صرب البوسنة المعروفة باسم “صربسكا”، يذكر أن مفاوضات السلام التي عقدت في دايتون الأمريكية وضعت حلًا للصراع الدامي، وحصل الصرب على كيان مستقل يحتل نصف البلاد.
وأعطت المفاوضات النهائية للمسلمين والكروات النصف الآخر من البلاد وهو ما يشكل جمهورية البوسنة والهرسك، ويرتبط الطرفان بمؤسسات مركزية تُدار بآليات موضوعة من الأمم المتحدة، إلا أن دوديك يندد بهذه المؤسسات ويريد إزالتها، ولطالما عبّر عن عدم رضاه عن هذا النظام الذي يعتبره “صنيعةً غربيةً”، ويؤكد قائلًا: “سنعيد النظر ونعود عن موافقة الجمهورية الصربية على تشكيلها ولا سلطة في العالم تستطيع إيقافنا”.
تعدّى الأمر تصريحات دوديك، فوصل إلى برلمان صرب البوسنة، إذ وافق البرلمان على بعض قرارات دوديك، ومنح البرلمان حكومة صربسكا، 6 أشهر للبدء في الانسحاب من 3 مؤسسات فيدرالية وهي: الجيش والقضاء والضرائب، كل ذلك لأن دوديك بات يرى البوسنة “دولة فاشلة وتجربة غربية معطوبة”، وعلى الرغم من التنديد الغربي بالخطوات الصربية، فإن دوديك لا يبالي بذلك طالما أنه يسند ظهره إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
تجدر الإشارة إلى أن دوديك، كان في بداياته معارضًا معتدلًا في البرلمان الصربي كما أن خطابه كان يحظى بدعم غربي واضح بوصفه معارضًا للحرب وذا خطاب غير متشنج تجاه المسلمين، هذا الدعم استفاد منه دوديك عندما وصل لرئاسة وزراء إقليم صربسكا ضمن جمهورية البوسنة والهرسك، لكن هذا النهج تغيّر، فبدأ دوديك بإظهار قوميته وترك الرداء الذي كان يرتديه للاحتيال، فباتت تصريحاته أشد من خطابات القوميين الصرب أنفسهم، فبات يطالب بطرد القضاة المسلمين من المحاكم الصربية بتهمة “التآمر على الصرب”.
أضف إلى ذلك أن دوديك أنكر في خطاب له مجزرة سربرنيتسا التي راح ضحيتها أكثر من 8000 مسلم في فترة الحرب، قائلًا: “إنها أسطورة ابتدعها البوسنيون لكي يبنوا هويتهم”، كما أنشأ دوديك عام 2019 لجنة تحت اسم “الاستقصاء التاريخي” في حقيقة ما حدث بسربرنيتسا، وكان على رأسها الأكاديمي الإسرائيلي جدعون غرايف، الذي خلص بأنها “لم تكن مذبحة”، مبررًا ذلك بأن “التقرير أساسًا أتى بهدف تحقيق المصالحة، فالحقائق تأتي في خدمة السلام بين كل أطراف القضية”، وبعد مطالبات عديدة قررت ألمانيا سحب وسام الاستحقاق من غرايف لأنه أنكر المجزرة.
تنديد دولي ودعم روسي
التصريحات التي صدرت عن دوديك والأفعال التي تجري من الصربيين الانفصاليين بالعموم لاقت تنديدًا دوليًا واسعًا، لكن دوديك وجد في روسيا ملاذًا آمنًا لدعمه وهو ما يضعه في الجبهة الروسية ضد الغرب، هذه الجبهة باتت اليوم أكثر اشتعالًا في عدّة أماكن مثل أوكرانيا وسوريا، وفي تصريح له قال إنه إذا حاول أي شخص إيقافه أو إيقاف الانفصال، فإن له أصدقاء سوف يدافعون عنه، ولعل المقصود هنا هو الجيش الروسي، فيما تعمل موسكو جاهدةً على تغذية الاضطرابات الحاصلة في البوسنة من أجل إبعاد هذا البلد أكثر عن أوروبا والانضمام للناتو، كما الحال في أوكرانيا.
في السياق أكد وزير داخلية صربيا ألكسندر فولين على نقطتين أساسيتين بالنسبة لروسيا، حينما قال: “لن تدعم صربيا أبدًا العقوبات ضد روسيا أو الهستيريا المعادية لروسيا، ولن نصبح عضوًا في الناتو”، وتابع مشددًا “لقد أظهر التاريخ أن كل فوبيا تجاه روسيا هي فوبيا تجاه صربيا أيضًا”.
تنفي روسيا أي صلة لها بالتشجيع على الانفصال الصربي لكن لطالما شجعت روسيا على إنهاء الإشراف الغربي المفروض على البوسنة منذ نهاية الحرب عام 1995، وهي النظرة التي يتبناها دوديك، النفي الروسي يتبعه دعم في الخفاء، إذ تم الكشف سابقًا عن ميليشيات صربية داعمة للانفصال تدربت على أيادي ضباط روس، وتدعى هذه المجموعات “الشرف الصربي-Serbian Honour”، وتشير التحقيقات إلى أن تلك المليشيات تلقت تدريباتها العسكرية في “مركز إنساني”، افتتحته روسيا عام 2012 بتمويل خاص منها في مدينة “نيش” الصربية.
التحركات الروسية تلك تواجهها تحركات دولية للضغط على صربيا، ففرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية على الزعيم السياسي لصرب البوسنة ميلوراد دوديك، بتهمة زعزعة استقرار البلقان مع مشروعه الانفصالي الذي يثير مخاوف من العودة إلى النزاع في بلد منقسم على أسس إثنية، إضافة إلى ذلك منعت وزارة الخارجية الرئيس السابق لهيئة قضائية عليا في البوسنة والهرسك ميلان تيجلتيا والنائب ميرساد كوكيتش من دخول الولايات المتحدة أيضًا بتهمة “الفساد”.
الحضور التركي
لا بد من حضور تركي في هذه المنطقة التي تهتم بها أنقرة كثيرًا، كونها تمثل عمقًا تاريخيًا وامتدادًا لتركيا كما أنها تعتبر ساحةً للمنافسة التركية الروسية إضافة إلى مساحات أخرى يتنافس بها البلدان بفرض النفوذ السياسي والاقتصادي، وإن كانت روسيا تحابي طرفًا دون آخر فتركيا يبدو من خطابها الاعتدال تجاه الأطراف.
وفي السياق يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “تركيا تعد الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في البوسنة والهرسك مجددًا، كتلك التي شهدتها البلاد قبل اتفاقية دايتون المبرمة عام 1995″، يذكر أن أردوغان استقبل المسؤولين عن كل الأطراف في البوسنة، كما قال إنه يخطط خلال الأيام المقبلة لدعوة مسؤولين من البوسنة والهرسك، للقاء في أنقرة، بمن فيهم ميلوراد دوديك.
رغم اعتدال الخطاب التركي تجاه الأطراف البوسنية كافة، فإن الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع التركي خلوصي آكار إلى البوسنة حملت رسائل مهمة في إطار ما يحصل في تلك المنطقة ويرى المراقبون أن هذه الزيارة أتت لدعم المسلمين وطمأنتهم، والتقى أكار أعضاء المجلس الرئاسي الثلاثي للبوسنة والهرسك وهم رئيس المجلس زليكو كومسيك ممثل الكروات وعضوي المجلس شفيق جعفروفيتش ممثل البوشناق وميلوراد دوديك ممثل الصرب.
كما التقى نظيره البوسني سيفيت بودزيتش، وشدد في مؤتمر صحافي على أن “الخطاب الانفصالي في البوسنة والهرسك لا يصب في مصلحة أي طرف”، مشيرًا إلى أن “تركيا تتابع تطورات الأوضاع في سراييفو عن كثب”، وأكد أن “تركيا تربطها بالبوسنة والهرسك علاقات وطيدة، وهي حريصة على سلامتها من كل مكروه”، والتقى أيضًا رئيسة البلاد فيوسا عثماني ورئيس الوزراء ألبين كورتي.
بدوره دعا مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السلطات في البوسنة والهرسك وصربيا المجاورة، إلى “ضرورة أن تدين وتمتنع عن أي دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية”، وأعربت المتحدثة باسم المفوضية، ليز ثروسيل، عن قلقها العميق إزاء الحوادث الأخيرة في كلا البلدين التي شهدت أفرادًا يمجدون الجرائم الفظيعة ومجرمي الحرب المدانين، ويستهدفون مجتمعات معينة بخطاب الكراهية، وفي بعض الحالات، يحرضون بشكل مباشر على العنف.
وقالت المفوضية: “الخوف هو أن مثل هذه الأعمال التي يغذيها الخطاب القومي التحريضي المستمر وخطاب الكراهية لبعض السياسيين ستزداد هذا العام، قبل الانتخابات”، وقالت ليز ثروسيل: “كما أكدنا مرارًا وتكرارًا، فإن تصاعد خطاب الكراهية وإنكار الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الفظيعة وتمجيد مجرمي الحرب في غرب البلقان، يسلط الضوء على الفشل في معالجة تركة الماضي بشكل شامل”.
ختامًا، يقف قرار الحرب اليوم في المنطقة على إرادة الأطراف الدولية في منع الحرب أو التحريض للانزلاق في أتون حرب كالتي حصلت في تسعينيات القرن الماضي وحصدت أرواح عشرات آلاف الضحايا.