وافق حلف شمال الأطلسي “الناتو” خلال قمة بوخارست التي عقدت في أبريل/نيسان 2008، على أن أوكرانيا وجورجيا “سيصبحان عضوين” في التحالف، ليبدأ التعامل مع البلدين على أنهما عضوان بالكيان لوجستيًا رغم عدم تحديد القرار جدول زمني للتطبيق الفعلي ولا الظروف الملائمة للتنفيذ.
وبعد مرور قرابة 14 عامًا على هذا الوعد لا تزال أوكرانيا على قوائم الانتظار، فلا هي عضو فعلي ولا مستبعدة بشكل رسمي، وهو الموقف الذي عبر عنه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، بقوله خلال مؤتمر صحفي عقب اجتماع مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، ديسمبر/كانون الأول الماضي: “لا يوجد حتى الآن موقف مشترك لدى الدول الـ30 بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو، لكن معظم الدول تدعمنا، كما لا يوجد موقف مشترك بين الدول فيما يتعلق بالمساعدة العسكرية”.
ومع احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 توقع البعض أن انضمام أوكرانيا للناتو بات مسألة وقت لا سيما بعد إعلان أوروبا والولايات المتحدة كامل دعمهما لكييف في مواجهة التغول الروسي، لكن الأمور لم تكن على مستوى المأمول أوكرانيًا، ومع التصعيد الأخير الذي ينذر بنشوب حرب ثالثة هل يمكن للحلف الغربي تنفيذ وعده الذي قطعه على نفسه قبل 14 عامًا؟
احتلال القرم.. نقطة التحول
تعود العلاقات بين أوكرانيا من جانب والناتو والاتحاد الأوروبي من جانب آخر إلى أوائل التسعينيات، ومنذ ذلك الحين تشهد أجواء دافئة على المسارات كافة، وصلت ذروتها في أعقاب الصراع مع روسيا قبل 8 سنوات، لتتحول منذ ذلك الحين إلى واحدة من أعمق شراكات الناتو الخارجية.
التعاون بين الطرفين وصل إلى المجالات العسكرية الحرجة الدقيقة، وفي فبراير/شباط 2021 وقع الناتو وكييف خطاب نوايا للتعاون العسكري البناء بين قوات العمليات الخاصة، وفي أبريل/نيسان من نفس العام، أي بعد شهرين فقط على توقيع الخطاب، خرج السفير الأمريكي ونائب الأمين العام الحاليّ لحلف الناتو ألكسندر فيرشبو، بتصريح غاية في الدلالة، حين قال إن الوقت قد حان لجعل الجيش الأوكراني “متوافقًا مع معايير الناتو”.
وبعد أسبوع واحد من هذا التصريح استبعد السفير الأمريكي توسيع التحالف خلال السنوات القادمة، بما يعني غلق الباب أمام ضم أوكرانيا، وهو الموقف شبه الرسمي لفرنسا وألمانيا، وهو ما عبر عنه الرئيس الأوكراني حين أشار إلى أن لا يوجد موقف واحد ومشترك لأعضاء التحالف بشأن ضم بلاده رسميًا.
وخلال السنوات الماضية ارتفع منسوب الرغبة الشعبية الأوكرانية في الانضمام لتلك التحالفات، بخلاف ما كان عليه الوضع قبل احتلال شبه جزيرة القرم، فبحسب استطلاعات الرأي التي جرت مؤخرًا يؤيد 69% من الأوكرانيين انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، بينما أبدى 57% استعدادهم للانضمام إلى الناتو.
رفض وتحذير روسي
في خطابه الذي أعلن فيه ضم شبه جزيرة القرم، في 18 مارس/آذار 2014، قال الرئيس الروسي بوتين إن الغرب اعتاد الكذب فيما يتعلق بوقف التوسع شرقًا، مؤكدًا أن الناتو يبقى تحالفًا عسكريًا فقط، ولا يمكن الترحيب به سياسيًا في الدول الشرقية (في إشارة إلى أوكرانيا وجورجيا).
التحذير الروسي من مغازلة الناتو لكييف عبر وتر الانضمام للتحالف وصل إلى أعلى مستوياته في مطلع 2021، حين حركت روسيا قواتها تجاه أوكرانيا، ونوهت المتحدثة باسم الخارجية الروسية بأن محاولة أوكرانيا الحصول على عضوية الناتو قد يترتب عليها “عواقب لا رجعة فيها على الدولة الأوكرانية”.
وخلال العامين الماضيين تستعرض موسكو عضلاتها العسكرية بين الحين والآخر على الحدود الأوكرانية، محذرة بالتلميح إلى إعادة سيناريو القرم مرة أخرى حال تجاوز كييف للخطوط الحمراء فيما يتعلق بعلاقاتها مع الغرب التي يأتي على رأسها فكرة الانضمام للناتو.
الدروس المستفادة من الحرب الروسية في جورجيا 2008 وشبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014 تذهب إلى أن حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ومن قبلهم أمريكا ليسوا في حالة استعداد للمخاطرة بحرب مع روسيا
وتستند روسيا في تصعيدها ضد الغرب إلى ما يثار بشأن التعهد القديم الذي قدمه الغرب للاتحاد السوفيتي عام 1990 بعدم توسيع حلف الناتو نفوذه شرقًا نظير موافقة السوفييت على إعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية وسقوط جدار برلين، فيما يرفض وزير خارجية أوكرانيا، دميترو كوليبا، تلك الرواية، نافيًا وجود هذا التعهد في الوثائق الأرشيفية.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي طلبت موسكو رسميًا من حلف شمال الأطلسي إلغاء قراره وتعهده الصادر خلال قمة بوخارست 2008 بضم أوكرانيا وجورجيا للحلف، لكنه قوبل بالرفض من الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، الذي أكد أن “علاقة حلف شمال الأطلسي بأوكرانيا ستقررها الدول الثلاثون الأعضاء في الحلف وأوكرانيا – ولا أحد سواها”، مضيفًا “لا يمكننا أن نقبل أن تحاول روسيا إعادة إرساء نظام تكون للقوى الكبرى فيه، مثل روسيا، مناطق نفوذ، ويمكنها فيه أن تتحكم أو تقرر ما يمكن أن يفعله أعضاء آخرون”.
يمكن تفهم الموقف الروسي إزاء الملف الأوكراني في ضوء ما تمثله كييف من أهمية إستراتيجية وتاريخية لموسكو، مقارنة بما تمثله للغرب، حيث يعتبرها الروس جذور بلادهم الأصلية، فقد كانت أوكرانيا جزءًا من الإمبراطورية الروسية لقرون طويلة، كما يتحدث الجزء الأكبر من الأوكرانيين بالروسية، هذا بجانب العلاقات الاجتماعية التي تربط بين الشعبين، فضلًا عن العمق الأمني الإستراتيجي في ضوء الحدود المتلاصقة التي تدفع موسكو للاستنفار حال اقتراب المعسكر الغربي منها لأي سبب من الأسباب.
تفوق روسي
هناك جدل دستوري بشأن قانونية انضمام أوكرانيا للناتو، إذ يستند المعارضون لوثيقة إعلان استقلال أوكرانيا، الموقع في 24 أغسطس/آب 1991، التي تمنع على الدولة المستقلة الانضمام إلى أي تحالفات، حيث تقع صفة “عدم الانحياز” كضلع أساسي في بناء الدولة الأوكرانية، إلا أن البرلمان الأوكراني عدل هذا البند في ديسمبر/كانون الأول 2014 وفق حزمة تعديلات دستورية تسمح له بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وبعيدًا عن هذا الجدل فإن هناك تفوقًا روسيًا واضحًا ميدانيًا يعيق تطلعات الشعب الأوكراني في الانضمام للتحالف الغربي، فقبل عدة سنوات كان لدى روسيا قرابة 270 ألف جندي و700 مقاتلة نفاثة متمركزة على الحدود الجنوبية والغربية لأوكرانيا، زاد هذا العدد بعد 2015 بأكثر من 150 ألف جندي آخرين، وفق تقرير لـ”رويترز“، ما يعني أن موسكو قادرة على تعبئة قواتها العسكرية في تلك المنطقة في أسرع وقت ممكن حال نشوب حرب مقارنة بقدرات الغرب التي تواجه عراقيل وتحديات لوجستية قوية.
الغرب وعبر سياسة التسويف سيجعل أوكرانيا على قائمة الانتظار، وسيبقي على حلم الانضمام للناتو حيًا، حتى إن لم يتخذ في ذلك خطوةً للأمام
وبعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم حولتها إلى ثكنة عسكرية وقاعدة ثابتة، محصنة بأكثر من 25000 جندي والعديد من السفن والغواصات، هذا بخلاف منظومة دفاعية متطورة، على رأسها سلاح s 400، وهي المنظومة التي تستطيع من خلالها استهداف طائرات الناتو حتى مسافة 250 ميلًا.
وفي الجهة المقابلة يكتفي الناتو ببعض التشكيلات العسكرية القتالية متعددة الجنسيات في دول البلطيق، هدفها الرئيسي بث الطمأنة والوجود الرمزي أكثر منها الاستعداد الكامل للدخول في مواجهات عسكرية قوية، ورغم تعزيز تلك التشكيلات مؤخرًا من خلال الدعم البريطاني والأمريكي، يظل التفوق الروسي السمة الأبرز لخريطة القوى في تلك المنطقة.
هل يتحمل الغرب كلفة انضمام أوكرانيا للناتو؟
مع التجاوزات الروسية بحق الأوكرانيين واحتلالها للقرم والتلويح بشن هجمات أخرى من المحتمل أن تسيطر من خلالها على أراضٍ جديدة، يبقى السؤال: هل يمكن للناتو والولايات المتحدة الدفاع عن أوكرانيا ميدانيًا؟ أو بمعنى آخر: هل لدى الغرب رفاهية المخاطرة وتحمل كلفة الدفاع عن دولة مهمشة أوروبيًا وعليها اختلاف بين عواصم أوروبا الكبرى؟
الدروس المستفادة من الحرب الروسية في جورجيا 2008 وفي شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014 وما أعقبها من استعراض قوى عبر عدد من المناورات الحدودية، تذهب إلى أن حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ومن قبلهم أمريكا ليسوا في حالة استعداد للمخاطرة بحرب مع روسيا.
من المستبعد أن تغامر أوروبا بإرسال عشرات الآلاف من جنودها للدفاع عن الأوكرانيين في ظل الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها القارة العجوز بخلاف تنامي التيار الشعبوي الذي بلا شك سيتصدى لمثل تلك التوجهات، الوضع كذلك مع الأمريكان في ظل سياسة جو بايدن التي تميل إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي خارجيًا.
ومن ثم فإن تنفيذ الناتو وعده السابق بضم أوكرانيا أمر ربما يكون مستبعدًا في الوقت الحاليّ، حتى إن كانت الظروف مواتية، فالقلق من الدخول في حرب صدامية مع الروس حال الإقدام على تلك الخطوة ربما يدفع الحلف إلى إعادة النظر في مسألة الضم رسميًا في الوقت الراهن.
وباستعراض الفوارق الكبيرة بين موسكو والغرب فيما يتعلق بالاستعدادات العسكرية لأي مواجهات محتملة فوق الأراضي الأوكرانية، يمكن القول إن الناتو لا يمتلك أي قدرة على الدفاع عن الأوكرانيين، وهو ما يمكن أن يعرض سمعته للخطر، كونه شريكًا غير موثوق به لأعضائه الحاليين في أوروبا الشرقية.. وهنا لا بد من مخرج للحفاظ على الصورة الإيجابية التي يحرص الناتو على تصديرها.
ما البديل؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال للغرب أن يلقي بورقة أوكرانيا بصورة نهائية عبر الإعلان عن التخلي عنها بالكلية، فهذا التحرك سيضع التحالفات الأوروبية في مأزق أمام شعوبها وحلفائها وسمعتها الدولية، كما أنه سيعزز من ثقل الروس ويجعل من حلم استعادة النفوذ السوفييتي أمرًا قد يكون محتملًا.
ومن ثم فإن الغرب وعبر سياسة التسويف سيجعل أوكرانيا على قائمة الانتظار، وسيبقي على حلم الانضمام للناتو حيًا، حتى إن لم يتخذ في ذلك خطوة للأمام، لكن في المقابل سيواصل الدعم اللوجستي والعسكري لكييف حتى تكون ندًا وخصمًا لتوسعات موسكو الإقليمية، بما يعني استخدام الملف الأوكراني كورقة ضغط لمناكفة الروس في ظل صراع النفوذ بين الغرب وروسيا.
وعليه فمن الصعب على أوروبا تقوية الجيش الأوكراني بما يفوق نظيره الروسي، لكن قد يكون استمرار الدعم والضخ العسكري المتواصل هو الحل للإبقاء على حالة التوازن النسبي بما لا يمهد الطريق أمام الروس لمزيد من التوغل وإعادة سيناريو شبه جزيرة القرم مرة أخرى.