تحيا باكستان الساعات الأخيرة الماضية أزمة سياسية من الطراز الأول في أعقاب نجاة رئيس الوزراء عمران خان من مقصلة إزاحته عن السلطة بعدما ألغى نائب رئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) جلسة التصويت على حجب الثقة منه رغم موافقة 161 نائبًا على اقتراح سحب الثقة المقدم من المعارضة فيما كان يحتاج رئيس الحكومة لـ172 صوتًا لبقائه في منصبه.
وبينما كانت تتجه الأنظار نحو البحث عن رئيس وزراء جديد، إذ بخان يقلب الطاولة ويتدخل لدى رئيس الدولة لحل البرلمان الذي كان يخطط للإطاحة به، وسط صدمة كبيرة للمعارضة التي تلوح بالتصعيد والاعتصام، في مؤشر يذهب إلى أن الأيام القادمة ربما تشهد تصعيدًا سياسيًا من نوع مختلف.
لا يمكن قراءة ما حدث بمعزل عن الحرب الروسية الأوكرانية المستعرة منذ 24 فبراير/شباط الماضي، التي تتجاوز تداعياتها حاجز النطاق الجغرافي الضيق لميدان القتال، لتصيب العديد من الكيانات والدول المجاورة ذات التماس المشترك في خريطة علاقاتها المتشابكة المتأرجحة بين موسكو وواشنطن.. فما الذي يحدث في باكستان؟
طلب لسحب الثقة.. ما القصة؟
كانت المعارضة قد تقدمت باقتراح للبرلمان بحجب الثقة عن خان، في 8 مارس/آذار الماضي، وأمام هذا العدد الكبير لنواب المعارضة أصحاب المقترح (161 من إجمالي 342 نائبًا بالمجلس) وافقت الجمعية الوطنية في 28 من الشهر ذاته، على إدراجه على جدول الأعمال، على أن تحدد جلسة 3 أبريل/نيسان الحاليّ لمناقشته.
المعارضة في طلبها المقدم ألقت باللوم على خان وحكومته في التراجع الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ توليه مقاليد الأمور، رغم الوعود التي قطعها على نفسه لتحسين وإنعاش الحالة المعيشية للمواطنين، هذا بجانب فشله في القضاء على الفساد الذي يواصل هدمه لثوابت ومرتكزات المجتمع دون رادع.
وقبيل بدء الجلسة، قدمت أحزاب المعارضة داخل البرلمان مقترحًا جديدًا لحجب الثقة عن رئيس الجمعية العمومية، أسد قيصر، بدعوى صلته الكبيرة وولائه التام لخان، ما قد يفقد التصويت موضوعيته ويشكك في نزاهته، وعليه ترأس نائب رئيس المجلس، قاسم خان سوري، جلسة سحب الثقة.
وبعد ساعات قليلة من التقدم بهذا المقترح شكك رئيس الوزراء الباكستاني في مصداقية هذا التحرك، متهمًا الولايات المتحدة بالتواطؤ مع المعارضة للإطاحة به من منصبه، لتغيير النظام في باكستان لا سيما بعد التوتر الذي شاب العلاقات بين البلدين بسبب الموقف إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، فيما نفى البيت الأبيض على لسان مديرة الاتصالات به، كيت بيدينجفيلد، اتهامات خان.
مفاجأة من العيار الثقيل
في الوقت الذي كانت تُمني فيه المعارضة نفسها بتمرير مقترحها بما يمهد نحو إزاحة رئيس الوزراء من منصبه، إذ بنائب رئيس البرلمان الذي كان يرأس جلسة التصويت يفجر مفاجأة من العيار الثقيل حين أعلن إلغاء جلسة التصويت ورفض المقترح.
وحسبما نقل موقع “الجزيرة” عن صحيفة “ذي نيوز إنترناشيونال” الباكستانية، فإن سوري استند في قرار الإلغاء إلى تصريح وزير القانون بالتكليف، فؤاد تشودري، أمام المجلس الذي أكد فيه أن محاولة المعارضة الإطاحة بحكومة خان هو مخطط مدعوم من قوة أجنبية ويتعارض مع الدستور، ومن ثم رفعت الجلسة وتم تجميد جلسة التصويت بموجب المادتين (5 و6) من الدستور.
وتنص المادة الخامسة من الدستور على أن الولاء للدولة هو الواجب الأساسي لكل مواطني البلاد، فيما تشير المادة السادسة إلى أن “أي محاولات لتعليق الدستور أو إلغائه باستخدام القوة أو إظهار القوة أو بأي وسيلة أخرى غير دستورية تكون مذنبة بالخيانة العظمى”.
وزير الإعلام الباكستاني، فؤاد تشودري، أكد في تصريحات له صحة ادعاءات خان التي استند إليها المجلس في إلغاء قرار سحب الثقة، لافتًا إلى أنه في 7 مارس/آذار الماضي تم إخبار سفير إسلام آباد في واشنطن، خلال اجتماع دُعي إليه مع بعض سفراء البلدان الأخرى، بأن هناك تحركات جارية للإطاحة برئيس الوزراء، أي قبل يوم واحد فقط من تحرك المعارضة، ما يشي إلى تنسيق محتمل بين الطرفين على هذا الهدف، بحسب تشوردي، الذي ألمح إلى تلميح واشنطن أن العلاقات بين أمريكا وبلاده باتت مرهونة بنجاح سحب الثقة من خان، وأن فشل تلك التحركات من شأنه أن يدخل العلاقات بين البلدين في نفق مظلم.
خان يقلب الطاولة
في أول رد فعل انتقامي له عقب فشل مخطط سحب الثقة منه، أشار خان على رئيس الدولة، عارف علوي، بحل البرلمان والحكومة الفيدرالية، وإجراء انتخابات في غضون 90 يومًا، وبالفعل استجاب الرئيس وأصدر قراره بحل الجمعية الوطنية، إذ إنه لا يحق لرئيس الوزراء المرفوع بحقه مقترحات برلمانية بسحب الثقة بأن يحل البرلمان، ومن ثم كان لا بد أن يكون القرار صادرًا عن الرئيس بشخصه، بحسب الدستور الباكستاني.
وعليه سيواصل خان أداء عمله كرئيس للوزراء حتى إجراء الانتخابات أو تشكيل حكومة تصريف أعمال مؤقتة لحين اختيار أخرى جديدة بعد الانتخابات، حيث خاطب الشعب الباكستاني في لقاء متلفز بعد الانتهاء من جلسة التصويت الملغاة قائلًا: “يجب على الأمة الاستعداد للانتخابات المقبلة”.
فشل التصويت وحل البرلمان والإعلان عن انتخابات مبكرة في غضون 3 أشهر، أحدث صدمة كبيرة في صفوف المعارضة التي وصفت هذ اليوم بـ”يوم أسود في تاريخ باكستان الدستوري” بحسب زعيم “حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية” شهباز شريف، المرشح الأول لخلافة خان على منصب رئيس الحكومة حال نجاح مخطط الإطاحة به.
الرأي ذاته ذهب إليه زرداري رئيس حزب الشعب الباكستاني المعارض، بيلاوال بوتو زرداري، الذي هدد خلال لقاء له مع بعض الصحفيين بالاعتصام داخل البرلمان، لافتًا إلى التوجه نحو المحكمة العليا للبت في هذا الموضوع، على أمل الحكم بعدم دستورية حل البرلمان وإلغاء جلسة التصويت لحجب الثقة عن رئيس الوزراء.
محامو المعارضة الباكستانية طالبوا بشكل رسمي تدخل المحكمة العليا بصفتها أكبر منصة دستورية في البلاد، بالفصل في دستورية قرار الرئيس من عدمه، فيما تتجه الأنظار اليوم صوب المحكمة لحسم تلك المسألة التي يتوقع معها صب المزيد من الزيت على نار الأزمة السياسية الراهنة التي لا يستبعد أن يكون لها تبعاتها على الساحة الداخلية.
بين معسكري الشرق والغرب
تعاني إسلام آباد في خريطة سياستها الخارجية من التأرجح بين معسكري الشرق والغرب، إذ تنقسم النخبة السياسية في الداخل إلى قسمين: الأول يميل ناحية موسكو فيما يميل الآخر تجاه بروكسل (الاتحاد الأوروبي) وواشنطن، وهو ما أفقد البلاد كثيرًا من قوتها وثقلها الإقليمي في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها والتوترات بين الحين والآخر مع الجارة الهندية.
الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة كشفت بشكل كبير حالة الانقسام الكبير داخل جدار السلطة، فبينما انتقد قائد الجيش الباكستاني، قمر جاويد باجوا، تلك الحرب، داعيًا إلى الوقف الفوري لما وصفه “مأساة كبيرة” يتعرض لها بلد أصغر، رفض خان توجيه أي اتهامات للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كما رفض ضغوط الغرب لاتخاذ موقف مناوئ لموسكو في تحركاتها العسكرية ضد كييف.
رئيس الوزراء في خطابه الذي ألقاه، قبل أيام، أمام سفراء الاتحاد الأوروبي، قال إن بلاده “ليست عبدًا” للأوروبيين، متهمًا الغرب بالازدواجية في التعامل مع القوى الأخرى، قائلًا إن سفراء دول أوروبا طالبت أكثر من مرة من إسلام آباد إدانة العملية العسكرية في أوكرانيا، مضيفًا “أريد أن أسأل عما إذا كنتم قد وجهتم أي رسالة من هذا القبيل إلى الهند!”.
باكستان رفضت رسالة ما يقرب من 20 سفيرًا للاتحاد الأوروبي تحث إسلام آباد على التصويت ضد روسيا في جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة
وألمح خان إلى تجاهل الغرب لما يدور في كشمير منذ سنوات، منوهًا أنه وبينما كانت الهند تنتهك القوانين الدولية في تلك المنطقة المتنازع عليها، لم يتحرك أحد، متسائلًا “هل قطع أحد منكم العلاقات مع الهند أو أوقف التجارة؟”، مؤكدًا في الوقت ذاته أن بلاده لن تدعم أي حرب.
وأشار إلى أن بلاده تحافظ على علاقاتها الجيدة مع أمريكا وروسيا والصين وأوروبا، وتنتهج سياسة الحياد في التعامل مع أي أزمة ليست طرفًا فيها، مستعرضًا الخسائر التي تكبدتها إسلام آباد من وراء دعمها لحلف الناتو في أفغانستان، وتابع “بخلاف فقدان 80 ألفًا من الأرواح وخسارة 150 مليار دولار؟ هل اعترف الناتو بتضحياتنا؟ هل كتب سفراء الاتحاد الأوروبي يومًا رسالة يشيدون فيها بجهودنا في أفغانستان؟”.
جدير بالذكر أن باكستان رفضت رسالة ما يقرب من 20 سفيرًا للاتحاد الأوروبي تحث إسلام آباد على التصويت ضد روسيا في جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، مكتفية بالامتاع عن التصويت، واختيار الحياد بجانب دول أخرى مثل الصين والهند.
وبعيدًا عن تداعيات الحرب الروسية، فقد دخلت العلاقات بين إسلام آباد وواشنطن منحدرًا من التوتر خلال الآونة الأخيرة، فيما كشف خان عن تلقيه رسالة تهديد من البيت الأبيض بإسقاط حكومته بسبب رفضه إقامة قواعد عسكرية أمريكية فوق الأراضي الباكستانية، على حد قوله.
حالة الاستقطاب الحادة بين المعارضة والحكومة، التي تمثل جولة الصدام الحاليّة أضعف حلقاتها، تنبئ عن تصاعد منسوب الاحتقان السياسي بين النخب، والمرجح أن تنسحب تداعياته على الشارع الباكستاني الذي يعاني من تدني أوضاعه الحياتية في ظل أزمة اقتصادية خانقة يُخشى معها أن تقود في النهاية إلى ارتهان القرار السياسي للبلاد لصالح أجندات الثروة والمال.