عشية يوم 15 من أبريل حبس المشاهدون أنفاسهم وتطلعوا مشدوهين إلى الشاشات انتظارًا لعرض الحلقة الأولى من الموسم الأخير لمسلسل صراع العروش، تلك الحلقة التي حققت أكثر من مليار مشاهدة في جميع أنحاء العالم جاء معظمها من مواقع غير مشفرة وغير رسمية، في حين وصل عدد المشاهدات الرسمية نحو 17 مليون مشاهدة بنسبة 98% من جميع مشتركي شبكة قنوات HBO. وبتوزيع المليار مشاهدة على دول العالم يأتي نصيب كل دولة ما يقارب 51 مليون مشاهدة في غضون 24 ساعة.
وقبل عرضه بأيام قليلة انشغل محبو المسلسل بمصير أبطاله أكثر من أي شيء آخر، ففي بريطانيا على سبيل المثال فضل الغالبية الحديث عن الموسم الثامن من صراع العروش على حديثهم عن مصير بلادهم بشأن تداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبي “بريكست”.
وبسبب سيطرة هاجس توقعات نهاية المسلسل ابتكر طلاب في جامعة ميونخ التقنية تطبيقًا جديدًا باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي يمكنه التنبؤ بالشخصيات التي تملك أفضل فرصة للبقاء على قيد الحياة حتى نهاية الموسم الثامن من الملحمة التليفزيونية الشهيرة والتكهن بمن سيجلس على العرش الحديدي، وكان طلاب قسم علوم الكمبيوتر من الجامعة نفسها قد ابتكروا خلال عام 2016 خوارزمية قبل بدء الموسم السادس وصدقت توقعات التطبيق.. فكيف استطاعوا فعل ذلك؟
تقنية الشبكات العصبية الاصطناعية
تعد الشبكات العصبية من أهم مجالات الذكاء الاصطناعي الذي يعكس تطورًا مهمًا في طريقة التفكير البشري، ومحور فكرة الشبكات العصبية يدور حول محاكاة العقل البشري وذلك باستخدام الحاسبة الإلكترونية، وتتم عملية المحاكاة عن طريق حل المشكلات، وذلك من خلال اتباع عمليات التعلم الذاتي التي ترتكز على البيانات المخزونة في الشبكة وقد اقتبس أسلوب الشبكات العصبية الاصطناعية من الشبكات البيولوجية العصبية.
الشبكات العصبية الاصطناعية
للتنبؤ بنهاية المسلسل استخدم الطلاب الألمان الشبكة العصبية الاصطناعية المتكررة التي تعمل بشكل أفضل حين يتعلق الأمر بمعالجة تسلسل طويل من البيانات وذلك مثل نص مطول يضم سلسلة كتب، حينها تكون الخوارزمية قادرة على خلق تتمة حقيقية للأحداث وذلك ارتكازًا على الأشياء التي حدثت بالفعل في الفصول السابقة.
علاقة الأعمال الفنية بالذكاء الاصطناعي
في البداية لم تكن العلاقة بين الأعمال الفنية والذكاء الاصطناعي جيدة، فالفنون بطبيعتها وفي تكوينها الفلسفي تنحاز للإنسان، وقد يكون الإبداع الفني هو المجال الوحيد الذي يفرق الإنسان عن باقي المخلوقات، ولذا كان الفنان دومًا يتقدم الصفوف الأمامية دفاعًا عن الإنسان مستخدمًا تيمة “الإنسان ضد الآلة” وهو ما تجلى بشدة في مشهد تشارلي شابلن وهو يصارع تروس ومحركات الآلات العملاقة بداخل أحد المصانع في فيلمه Modern Times الذي عُرض عام 1928.
تشارلي تشابلن من فيلم modern times
ومن تشابلن في عشرينيات القرن الماضي إلى ستانلي كوبريك في الستينيات الذي لم يختلف موقفه كثيرًا عن تشابلن، ففي فيلمه 2001:A Space Odyssey الذي عُرض خلال عام 1968 قدم كوبريك أول تجلي للذكاء الاصطناعي في تاريخ السينما، الروبوت فائق الذكاء، وذلك من خلال شخصية Hal 9000 الذي تجسدت مهمته في مصاحبة رائدي فضاء في رحلتهما عبر النجوم، ولكن الروبوت قرر التخلص منهما، إذ توصل بذكائه المبرمج عبر تحليل بعض البيانات المدخلة في ذاكرته إلى أن بقاء رائدي الفضاء على قيد الحياة لن يكون في مصلحة البشرية.
الصدام السينمائي بين الذكاء الاصطناعي والبشر أخذ شكلًا أكثر مباشرة في فيلم Terminator للمخرج جايمس كاميرون
في الثمانينيات تم إحياء المواجهة سينمائيًا تحت شعار “الأرض لا تتسع لنوعين من الكائنات الذكية”؛ البداية كانت مع فيلم Blade Runner للمخرج ريدلي سكوت الذي كانت تدور أحداثه في زمن مستقبلي توصل فيه البشر إلى خلق كائنات تشبههم عضويًا ولكنها تفوقهم ذكاءً، في البداية كانت هذه الكائنات تستخدم من أجل خدمة البشر إذ يتم إرسالها إلى الكواكب الأخرى من أجل التنقيب عن الثورات المعدنية ومنهم من كان يعمل كالعبيد وذلك حتى قررت فرقة منهم الثورة على بني البشر وانتصروا في النهاية وطردوا البشر من كوكب الأرض.
الصدام السينمائي بين الذكاء الاصطناعي والبشر أخذ شكلًا أكثر مباشرة في فيلم Terminator للمخرج جايمس كاميرون، وتدور أحداث الفيلم في أجواء كابوسية، إذ تسيطر الآلات بشكل كامل على عالم البشر وتحاول قمع جميع ثوراتهم، فيما بعد اتخذت العلاقة بين البشر والذكاء الاصطناعي شكلًا أكثر سلمية وذلك من خلال فيلم I, Robot للمخرج أليكس بروياس الذي عُرض للمرة الأولى عام 2004، ويقدم الفيلم رؤية للمستقبل حيث يتقاسم فيه الإنسان العالم مع الروبوتات في أجواء سلمية يشوبها بعض الحذر، ولكن يجب أن تخضع الروبوتات للبشر ويكون عليها دائمًا السمع والطاعة.
الذكاء الاصطناعي يخرج من دائرة الصراع مع البشر ويتحول لوسيلة من أجل تطوير الفن
في السنوات الأخيرة وبعد أن أضحى التطور العلمي حتمية لا بد منها عزف الفنانون عن مهاجمة الذكاء الاصطناعي وأصبحت هناك تيمة جديدة تميز الأعمال الفنية وهي التوقف عن التفكير في تمرد الروبوتات والانشغال باستخدام الذكاء الاصطناعي كوسيلة من أجل ثراء الأعمال السينمائية وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في فيلم Her الذي صدر عام 2013 وألّفه وأخرجه سبايك جونز وتدور أحداثه حول البطل ثيودور الذي يعيش وحيدًا ثم يقع في غرام سامانثا وهي شخصية افتراضية لا يتعدى وجودها حيز نظام التشغيل الإلكتروني المصمم من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي.
ثيودور بطل فيلم Her
ومن خلال هذا الفيلم نرى سامانثا التي تجسد دور الذكاء الاصطناعي وهي تضحك وتقرأ ملايين الكتب وتغني وتساعد ثيودور في مجال عمله وتجيب عن تساؤلاته الفلسفية الصعبة ولكنها أبدًا لا تصارعه، وهنا استخدم جونز الذكاء الاصطناعي ليساعد الإنسان في فهم ذاته.
على نفس المنوال يأتي فيلم Ex Machina الصادر عام 2015 ويعد واحدًا من أهم أفلام الذكاء الاصطناعي وينقل لنا الفيلم رسالة مهمة مفادها أن الذكاء الاصطناعي مهما بلغت درجة تقدمه فالإنسان في النهاية أكثر تعقيدًا بكثير من أساليب الذكاء الاصطناعي، لأن الذكاء وحده ليس من يجعلنا بشرًا ولكن أيضًا العاطفة والغريزة وارتكاب الحماقات.
الذكاء الاصطناعي يصنع لنا الفن
العلاقة بين الفن والذكاء الاصطناعي لم تنته بعد، فمؤخرًا صرنا نلمس دورًا حقيقيًا للذكاء الاصطناعي كأداة في عملية صناعة الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، ففي الجزء الأخير من فيلم Blade Runner استخدم المخرج نسخة مخلقة آليًا باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي من شخصية ريتشل التي ظهرت في الجزء الأول من الفيلم منذ أكثر من 30 عامًا، أظهرها الذكاء الاصطناعي بنفس الهيئة والحيوية والشكل الذي ظهرت به في السابق.
وتكرر الأمر في أفلام أخرى مثل الجزء السابع من فيلم الحركة Fast & Furious، فرغم وفاة بول ووكر أحد أهم أبطال السلسلة، تمكن صناع العمل من خلق نسخة آلية لووكر بتقنية الذكاء الاصطناعي لتظهر في بعض المشاهد بنفس المظهر والصوت والحركة، وفي الجزء قبل الأخير من سلسلة أفلام “حرب النجوم” Force Awakens ضم الفيلم شخصيتين لبشر مخلقين آلين بشكل كامل باستخدام الذكاء الاصطناعي وهو الأمر الذي يعني أن صناع الفيلم أسندوا دورين لأبطال لا وجود لهما على أرض الواقع.
لم تقف التنبؤات بمستقبل الذكاء الاصطناعي عند حد قدرتها على معرفة نهاية مسلسل ملحمي تاريخي ولا عند المشاركة في صناعة الأفلام ولكن البعض ذهب في تنبؤه إلى قدرة الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب على كتابة القصص والإخراج السينمائي
في سياق متصل صرح الكاتب نيك بيلتون في حواره لمجلة Vanity Fair أنه في المستقبل لن تضطر النجمة جينيفر لورانس إلى الذهاب لمواقع التصوير إذ قد تكتفي بالتصريح لشركات الإنتاج باستخدام صورتها ثلاثية الأبعاد فقط.
لم تقف التنبؤات بمستقبل الذكاء الاصطناعي عند حد قدرتها على معرفة نهاية مسلسل ملحمي تاريخي ولا عند المشاركة في صناعة الأفلام، ولكن البعض ذهب في تنبؤه إلى قدرة الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب على كتابة القصص والإخراج السينمائي، وبسبب تطور تلك التقنية الفائق فستكون لدى تلك النصوص قدرة بالغة على تحليل الشخصيات وكشف منحنى المشاعر، وبصيغة حسابية إلكترونية بسيطة سيتمكن الذكاء الاصطناعي من معرفة أذواق المشاهدين وسيعملون بناء على ذلك ومن هنا ستطل علينا من جديد المخاوف القديمة، وهي أن الفن الحقيقي صناعة إنسانية لا تسكن في العقل فقط ولكنها تمتد لتستقر في الأعين والأذن والذاكرة والأحلام، فأن تكون فنانًا يعني أن تقلع صوب اتجاه لا يخبرك به العقل.